امينة النقاش
قبل أن أدخل فى صلب عنوان هذا الموضوع، أود أن أشحذ معى ذاكرة القارئ لنتذكر معاً أن مصر الجمهورية شهدت ثمانية رؤساء قبل انتخاب الرئيس
«عبدالفتاح السيسى» وليس سبعة كما يشاع فى الإعلام هذه الأيام، وهم: محمد نجيب وجمال عبدالناصر وأنور السادات والدكتور صوفى أبوطالب الذى تولى منصب رئاسة الجمهورية لمدة ثمانية أيام، عقب اغتيال الرئيس السادات
طبقاً لما كان ينص عليه دستور عام 1971، بأنه فى حال خلو منصب رئيس الجمهورية بالوفاة، يتولى المنصب رئيس مجلس الشعب، الذى كان يشغله «أبوطالب» آنذاك، وبقى فى المنصب من 6 أكتوبر حتى 14 أكتوبر حينما تولى «حسنى مبارك» بعد إجراء الاستفتاء على رئاسته، وفى أعقاب ثورة 25 يناير، تقلد المشير «محمدحسين طنطاوى» منصب الرئيس، ليصبح السادس فى هذه القائمة، قبل أن يؤول إلى «محمد مرسى»، وبذلك يكون المستشار «عدلى منصور» الذى تولى منصبه بعد ثورة 30 يونية، هو الرئيس الثامن لجمهورية مصر العربية، فى مرحلة من أشد مراحل تاريخها خطورة وارتباكاً وأثقالاً بتحديات داخلية وإقليمية ودولية غير مسبوقة.
وباتت معروفة تفاصيل المعركة العنيفة والفظة التى قادها حكم جماعة الإخوان مع المحكمة الدستورية، ولم تكن فى واقع الأمر سوى محاولة تستهدف إلغاءها، بعدما وصفها وزير عدل الجماعة «أحمد مكى» بأنها قضاء استثنائى، وذلك بسبب اعتراض المحكمة على الجهل القانونى الذى كان يتحكم فى أداء نواب مجلس الشعب، الذى سيطر على أغلبية عضويته نواب الإخوان وحلفاؤهم من التيار الإسلامى
ولإلغاء المحكمة لقانون العزل السياسى، الذى صدرت جماعة الإخوان اثنين من حلفائها للدفاع عنه ولتمريره فى البرلمان هما «عمرو حمزاوى» و«عصام سلطان»، وكان المستشار «عدلى منصور» هو الذى تولى رئاسة لجان الاستماع فى المحكمة الدستورية، التى انتهت إلى إلغاء هذا القانون، وبعد تعديل قانونها وفقاً لدستور 2012، انتخبت الجمعية العامة للمحكمة المستشار «عدلى منصور» فى مايو2013 رئيساً لها، وبسبب استمرار الأزمة بين المحكمة الدستورية وبين رئاسة الجمهورية، تباطأ الرئيس السابق «محمد مرسى» فى التصديق على انتخابه،
ولم يقسم المستشار منصور اليمين بتسلم مهام منصبه الجديد، وحينما قبل بعد ثورة 30 يونية تولى مهام الرئاسة حتى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة طبقاً لبنود خارطة المستقبل، أقسم اليمين أولاً أمام المحكمة الدستورية كرئيس لها، ثم أقسم بعد ذلك اليمين الدستورية لتسلم مهام رئيس الجمهورية، وكان إقدام المستشار «عدلى منصور» على القبول بهذا المنصب قراراً شجاعاً فى لحظة فارقة فى تاريخ مصر، تقدم فيها بجسارة لتحمل مسئولية جسيمة، كانت تبعاتها بلا ريب، تنطوى على مخاطر جمة، فى حال فشلها لا قدر الله.
وخلال نحو عام من توليه منصبه، لعب المستشار «عدلى منصور» دوراً بارزاً فى الارتقاء بلغة الحوار السياسي، فى المجتمع المصرى، بعد نحو ثلاث سنوات من تدهور فى هذه اللغة، وصل بها إلى درجات من التدنى، والإسفاف والترخص والإفلاس غير مسبوقة، وكرسها عام من حكم جماعة الإخوان الفاشل ومعدوم الكفاءة والخبرة والضمير، فألزم نفسه مع ذلك بعفة القول، وقوة الفكرة التى ساعدته على الرد على الخصوم بالحجة والمنطق، مهما غالوا فى إجحافهم وسبابهم
أو بالغوا حتى فى جرائمهم، مسلحاً بثقافته الإسلامية السمحة المستنيرة التى تحث الحاكم على أن يجادلهم بالتى هى أحسن، وأن يدعوهم إلى سواء السبيل بالحكمة والموعظة الحسنة، فأخذ الذين استهانوا بقدراته، وجندوا للهجوم عليه ميليشياتهم الإلكترونية المنحطة الخلق، ينعزلون ويفقدون مواقعهم يوماً بعد آخر، ويفقدون معها قدرتهم على التأثير على بسطاء المواطنين الذين تبينوا بفطرتهم السليمة أكاذيب المتاجرين بالدين، فلفظوهم وسخروا منهم، وتصدوا لهم فى المظاهرات والاستفتاءات والانتخابات، فيما أفسحوا مكاناً غالياً فى قلوبهم لرئيسهم المؤقت
الذى نجح منذ اللحظات الأولى لتوليه منصبه، فى نسف كل الجسور بينه وبينهم، ليس بسلوكه الرصين والراقى الذى أعاد للمنصب مكانته الرفيعة فحسب، بل أيضاً بقراراته التى كشفت عن نزاهته واستقامته وإخلاصه وحرصه على الصالح العام.
وفى هذا السياق أصر المستشار «عدلى منصور» على عدم تلقى أى راتب من منصبه كرئيس للجمهورية، مكتفياً براتبه الذى يتقاضاه من المحكمة الدستورية العليا، كما أصدر القانون الذى يحدد للمرة الأولى راتب رئيس الجمهورية بمبلغ 41 ألف جنيه فى الشهر، بحيث لا يتجاوز الحد الأقصى للأجور فى الدولة، شاملاً كافة البدلات والمخصصات التى يتقاضاها الرئيس
كما ألغى القرارات التى أصدرها الرئيس السابق بالعفو عن مجرمين وقتلة، بعد أن استبدل عقوبات الإعدام فى تلك الجرائم بالسجن المؤبد، وغيرها كثير من القوانين والقرارات المهمة التى أعادت للدولة بعض هيبتها.
وكانت روح الإنصاف التى تحلى بها، وراء تكريمه لكل من «خالد محيى الدين» و«محمد نجيب» و«سعد الدين الشاذلى» والرئيس «السادات» والفريق الفنى والقانونى الذى نجح فى المفاوضات التى قادت إلى استعادة «طابا» ومنح كل هؤلاء الأوسمة والنياشين وقلادات النيل.
بكيت بحرقة مع دموع المستشار «عدلى منصور» التى سالت بغزارة وهو يحيى بحزن صادق شهداء الوطن الذين دفعوا حياتهم ثمناً كى نصل جميعاً إلى اللحظة الراهنة، وأمنت على دعائه – كما فعل كثيرون غيرى - بأن يحفظ الله بلدى من كل الشرور، وحفظت عن ظهر قلب وصاياه للرئيس الجديدالمنتخب، كى تغدو برنامجاً للعمل الوطنى فى المرحلة القادمة، يلتزم فيها بأن يحسن اختيار معاونيه، وأن تشهد فترة رئاسته طفرة لتمكين المرأة فى المواقع السياسية والتنفيذية والنيابية، وأن يضمن استقلال القضاء كى يكون «العدل هو أساس الملك»، وأن يضع نصب عينيه مهمة تنمية المناطق المحرومة، الماثلة فى العشوائيات وفى مدن الصعيد وسيناء والصحراء الغربية ومرسى مطروح وحلايب وشلاتين.
غدا الأحد، يرسى المستشار «عدلى منصور» التقليد الأول من نوعه فى العصر الجمهورى، فيسلم كرئيس قائم، الرئيس القادم سلطاته الدستورية، ثم يعود، مصحوباً بمحبة وإعجاب واحترام الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، إلى موقعه الذى قدم منه رئيساً للمحكمة الدستورية العليا، مع تمنياتى وتمنيات معظم المصريين، أن يكون القرار الأول لرئيس الجمهورية، الذى سينصب غداً هو منح المستشار «عدلى منصور» قلادة النيل، تقديراً ومحبة وعرفاناً بالجميل.
نقلآ عن الوفد