إن مفهوم العدالة الاجتماعية الذى يتكلم عنه السياسيون والثوريون، هذه الأيام، غامض وغير محدد فى رؤية كيفية توزيع الدخل الذى تتم المناداة به فى الإعلام، شاملا اتهاماً ضمنياً لمن يحقق الربح بعدم الأمانة أو على الأقل الجشع، ويتواكب ذلك مع اتجاه للملكية العامة والعودة إلى القطاع العام، حتى ولو كان يحقق الخسائر، رغبة فى المساواة فى الفقر، تحقيقاً للعدالة بين الناس!!
لذلك فلابد من أن تكون لدينا فلسفة ورؤية للعدالة قبل الخوض فى إجراءات فرعية قد تؤدى إلى إفقار المجتمع كله فى الطريق إلى تحقيق هذه العدالة، وسياسات الإنفاق العام والضرائب هى إحدى وسائل المجتمع لتحقيق أهداف تحقيق العدالة فى المجتمع بتوازن بين بقاء حافز النجاح وتحقيق الربح واحتياجات الإنفاق العام الذى سأشرحه فى السطور القادمة.
إننى أرى أن هناك فلسفتين مختلفتين تتعاملان مع العدالة الاجتماعية: الفلسفة الأولى تتعامل مع العدالة الاجتماعية كنتيجة يتعين الوصول إليها، بغض النظر عن عدالة الوسائل، مثلما فعلت الشيوعية، وكما يدعو بعض السياسيين فى مصر الآن، والفلسفة الثانية تتعامل مع العدالة الاجتماعية على أنها عدالة الفرصة ومكافأة المجهود، وفى نفس الوقت إتاحة خدمات وحقوق معينة للجميع كالتعليم والرعاية الصحية والمواصلات العامة والصرف الصحى والمياه النظيفة مثلا، بغض النظر عن تفاوت الدخل، بالإضافة إلى الإنفاق على مؤسسات العدالة (القضاء) ومؤسسة الدفاع عن الوطن (الجيش) ومؤسسات تطبيق القانون (الشرطة)، وهى الفلسفة الأقرب إلى عقلى ووجدانى فى تحقيق حد معروف من الحقوق، وفى نفس الوقت مكافأة العمل والاعتراف بتعدد واختلاف القدرات والرزق.
إن الاستثمار فى القوى البشرية وتكافؤ الفرص يسهم فى دعم النمو الاقتصادى والتشغيل، ويحقق العدالة الاجتماعية أكثر من مجرد الأخذ من الأقدر للتوزيع على الأقل قدرة. ويتحقق تكافؤ الفرص من خلال الإنفاق على نظام تعليم أساسى لا يفرق بين الغنى والفقير أو المهمش، ونظام أساسى للخدمات الصحية لا يميز بين الطبقات، وسبل انتقال عامة كريمة إلى العمل من خلال الاستثمار فى البنية التحتية، ومناخ أعمال شفاف يمنع الاحتكار، ويحمى أصحاب الأعمال الصغيرة، ويضمنهم فى العملية الإنتاجية وفى خلق فرص عمل كريمة وتوليد دخول لأسرهم. فإذا قامت الحكومة بدورها فى وضع لبنة الفرص المتكافئة والمتاحة بشفافية للجميع، يسهم الجميع من خلال عملهم فى تحقيق النمو الاقتصادى ونمو الدخل لجميع العاملين من خلال جنى ثمار النمو الاقتصادى الذى يساهم فيه كل العاملين - أى نصيب أكبر من الكعكة لكل مجتهد.
وهنا علينا أن نفهم أن تحقيق العدالة الاجتماعية بهذا المفهوم يقع على كل الدولة كمنظم وضامن للحقوق وعلى المواطن القادر فى استعمال أمواله لخلق فرص عمل جديدة والعامل بجهده وإتقانه عمله لتحقيق مزيد من الدخل والرفاهية له ولأسرته ومجتمعه.
وتحتاج مثل هذه السياسات الموجهة لتحقيق النمو الاقتصادى والعدالة الاجتماعية إلى موارد ضخمة وإدارة كفء ورؤية واضحة للدولة وواضعى السياسة. وهنا يأتى دور الزاوية الثانية من سياسات المالية العامة، وهى السياسات الضريبية. ومرة أخرى يواجه الاقتصاديون إشكالية تحقيق العدالة الاقتصادية من خلال منظومة منصفة أيضاً لدافعيها ومجهود عملهم. وتواجه إرساء منظومة ضريبية كفء ومنصفة عدة تحديات فى الدول النامية التى تكون للأعمال الصغيرة والأعمال غير الرسمية التى لا تسهم فى دفع الضرائب النصيب الأكبر من الاقتصاد، إضافة إلى تهرب الكثير من أصحاب المهن الحرة فى ظل منظومة ضريبية ضعيفة غير ممكنة، وبالتالى غير قادرة على الحصر والتحصيل الرسمى من خلال الإيصالات. فمثلا سنجد فى مصر أن أقل من عشرة بالمائة من المؤسسات تسدد أكثر من ثمانين بالمائة من الضرائب ليس فقط لأن نظام التحصيل غير كفء، ولكن لوجود هؤلاء الأفراد والمؤسسات الصغيرة خارج نطاق رادار التنظيم والمتابعة.
إلا أن الإنفاق العام على الأنشطة المختلفة التى تستهدف التمكين وتكافؤ الفرص والتكافل الاجتماعى يجب أن يكون فى حدود قدرات الدولة، لأن الإنفاق بدون مراعاة للتوازنات الاقتصادية الكلية يؤدى إلى التضخم، وهو نتيجة تضر بالفقراء أكثر ما تضر بالأغنياء.
إن الضرائب ليست هدفاً فى حد ذاتها، ولا هى عقوبة على الغنى لمجرد أنه يجنى أرباحا، وتكون منصفة للفقير بكونها تستخدم فى تنمية خدمات عامة تسمح لغير القادر بحياة كريمة، ومنصفة للقادر لأن الحياة الكريمة للجميع تحقق سلاماً اجتماعياً، ولا يجب أن تكون مغالى فيها فتقضى على حافز العمل أو تتسبب فى هروب الاستثمار وخلق فرص العمل. إننا يجب أن نضع فى الاعتبار أن مصر تنافس دولا أخرى فى جذب الاستثمار الى السوق المصرية، لأن قدرتنا الذاتية على الأقل فى الوقت الحالى لن تستطيع خلق مليون فرصة عمل سنويا لتستوعب احتياجات الزيادة السكانية المتصاعدة (مليون وستمائة ألف نسمة جديدة سنويا هو عدد المواليد فى مصر). إن نمو الاستثمار وتحصيل الضرائب من أرباحه يساهمان فى توفير الخدمات ومناخ الأعمال الذى يُمَكِّن الجميع من الإنتاج والإبداع والنمو. فكلما زادت القدرة على العمل والإنتاج وتحقيق الأرباح زادت معدلات النمو والكعكة الاقتصادية، واتسعت القاعدة الضريبية بسبب زيادة عدد المشتغلين من ناحية، وزيادة الدخول الناتجة عن النمو الاقتصادى. ومن هنا يتضح أن السياسة الضريبية يجب أن تحقق مزيجا أمثل من الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
ومن المهم لتحقيق العدالة رفع كفاءة منظومة إدارة تحصيل الضرائب، وهو الأمر الذى كان قد بدأ يأخذ مجراه منذ التعديل التشريعى ٢٠٠٥، والذى بدأت ألحظ الرجوع فيه فى السنوات الأخيرة وعودة ضغوط محصلى الضرائب التى كانت قد بدأت تختفى فى بداية عهد للثقة بين مصلحة الضرائب والمواطنين، ما سيسرب الكثير مما يسدد إلى خارج الإطار الشرعى للدولة.
إن العدالة الاجتماعية تتأتى بتوفير حقوق المواطن من الخدمات العامة كما قلت فى التعليم والرعاية الصحية والنقل العام والبنية التحتية وتطبيق القانون على الجميع وتحقيق تكافؤ فى الفرص لكل مواطن بناء على قدراته ومهاراته وليس على مجرد وجوده. وكل ما أذكره هنا يحتاج إلى تمويل من المجتمع وإدارة كفء من الحكومة ورقابة على الإنفاق العام ليحقق أهدافه المعلنة. فإذا جاءت حكومة وثبتت عمالة زائدة أو صرفت أرباحاً لم تتحقق أو تعسفت لتغلق مصنعاً أو وحدة إنتاج فإنها - وإن أرضت فئة من المجتمع - بالقطع قد انتهكت فلسفة العدالة الاجتماعية للكل لصالح فئة وإن كان لها حق من وجهة نظرنا ونظرها.
إننى ومن خلال هذه المقالة، وأنا غير متخصص وأتكلم بلغة المواطن الذى يدرس ويدقق فيما يتم تداوله سياسيا على الساحة أردت أن أشارك الرأى والفهم لعبارات يتم تداولها وشرحها بغير معناها، ما يؤدى إلى عكس المقصود منها. فكم من الجرائم يتم ارتكابها تحت اسم العدالة الاجتماعية فى مصر.
هذه المقالة كتبت بمشاركة د. أمينة غانم، المدير التنفيذى للمجلس الوطنى المصرى للتنافسية
* مؤسس والرئيس الفخرى للمجلس الوطنى المصرى للتنافسية
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع