فى عصر يوم حار، جلس «سامح» مع أسرته يتابع الموقف فى انتظار لحظة الحسم وانتهاء مهلة الـ48 ساعة التى عرضها الفريق أول عبدالفتاح السيسى، وزير الدفاع على الرئيس محمد مرسى، كان القلق يسيطر على الجميع، المنزل يومها لم يعرف الخلاف، وكانت الفرحة بالخلاص هى سيدة المشهد، ما زال يتذكر الزغرودة التى انطلقت من معظم الشرفات المجاورة لمنزله فى منطقة باب الشعرية بعد خطاب «السيسى»، وقتها قرر أن الرجل الذى يتلو ذلك البيان سيكون رئيسه المقبل.
مرت الأيام ببطء على الأسرة المكونة من ثلاثة أولاد، وأم رحل عنها رفيق الدرب قبل 5 سنوات، «ضياء، أحمد، سامح» ثلاثة رجال مضى كل منهم فى طريق عقب إلقاء بيان العزل وما تلاه من أحداث، ذهبت فرحة الاتفاق وبدأت نيران الخلاف تشتعل جذوة جذوة حتى يكاد وميضها يحرق بيتاً بأكمله.
الخلاف السياسى لم يفرق بين أبناء الأسرة الواحدة
شهور قليلة بعد البيان الأول، كانت كفيلة أن تجعل «أحمد»، الأخ الأكبر يعيد النظر فى الرجل الذى كان يراه «بطلاً» ليتحول بعد فض رابعة إلى «شخص آخر» فى نظره، بينما ازداد الرجل تألقاً فى نظر «سامح» ليتحول بعد فترة قليلة لبطل أسطورى قادر على صناعة المستحيل ليخرج مصر من المستنقع الذى تغرق فيه منذ ثلاث سنوات.
هكذا تحول المنزل الصغير فى باب الشعرية إلى مصر كبيرة غارقاً فى تفاصيلها وشعاراتها ما بين أحمد «الحمدينى»، وسامح «السيساوى» والأخ الأكبر ضياء الغارق فى البحث عن لقمة العيش لأسرته الصغيرة ولأطفاله، وأُمٍّ صار كل همها أن ينتهى الموسم الانتخابى بلا قطيعة تصاحب ابنيها للأبد.
قصة يومية لا تنتهى، بدأت مبكراً فور أن انحاز «سامح» لقرار اختيار المشير رئيساً لمصر، وأصر على المشاركة فى كل الوقفات والمسيرات التى نُظمت من أجل دفعه لإعلان موقفه من الترشح للرئاسة، لم يهتم كثيراً بمحاولات أخيه لإثنائه عن المشاركة، تارة بمذاكرته وامتحاناته الجامعية، وتارة أخرى بكلمات وصور على صفحته الشخصية بـ«فيس بوك» يهاجم فيها «السيسى» ومؤيديه.
«أحمد»، شاب فى أواخر العشرينات، كان البحث عن عروس أهم أسباب انشغاله فى الحياة بعد أن اعتقد أنه اطمأن على مستقبل مصر بعد انتخابات 2012، لكن الشهور القليلة بعدها أثبتت له عكس ما توقع، قبل عام من اليوم، قرر «أحمد» أن يكون من بين «عاصرى الليمون» كى لا يعود نظام مبارك للحكم مرة أخرى، واليوم يبدو أن المشهد ذاته يتكرر، يقول: «أهم نقطة خلاف بينى وبين أخى فى مسألة المشير هم الفلول وأعضاء الوطنى من الفاسدين اللى بيأيدوه»، كان «الترشح للرئاسة» هو نقطة التحول التى أطاحت بالرمز لدى «أحمد» وحوّلت المشير لشخص عادى له ما له، وعليه ما عليه «السيسى فى البداية أعلن عدم ترشحه وعدم رغبته فى المنصب ولما حصل عكس كده لقيت أن مافيش فرق بينه وبين اللى قبله».
فى باب الشعرية الحياد جريمة، وأن تكون مناصراً لحمدين صباحى، فتلك جريمة أشد، هكذا هو حال «أحمد» فى مكان سكنه، ليس مع أخيه فقط، ولكن مع كل من حوله «المنطقة عندى كلها مع السيسى يمكن كمان العيال الصغيرة بتأيده ومن المستحيل تلاقى فيها حد بيأيد حمدين ولو حصل بيكون الاتهام الجاهز ليه إنه إخوان»، الشارع الذى امتلأ عن آخره بلافتات تأييد السيسى لرئاسة الجمهورية لم يستطع الشاب العشرينى أن يعلق فيه لافتة واحدة لدعم حمدين، فلافتة مثل هذه كفيلة بأن تفتح عليه أبواباً لا تُسد «لو علّقت يافطة كل يوم هتحصل مشكلة، فقررت إنى أكبر دماغى وأغيّر بقلبى»، يؤمن «أحمد» بالحديث الشريف، الذى ينادى بضرورة تغيير المنكر ولو بأضعف الإيمان «للأسف لم يعد يصلح فى هذه الأيام سوى التغيير بالقلب، فمن يُصلح بيده هو إرهابى ومن يُصلح بلسانه هو ناشط فيس بوكى»، ينفى «أحمد» كون داعمى «صباحى» قلة فى وجه أغلبية تناصر المرشح المنافس «ده وهم، إحنا كتير أوى.. والمفاجأة الحقيقية هتكون يوم الانتخابات».
جلسات الشقيقين لا تخلو من الحديث فى السياسة
اختيار «أحمد» لحمدين لم يكن نابعاً عن اقتناع شخصى هذه المرة كما كان فى 2012، ولكنه «اختيار الضرورة» بحسب تعبيره «مافيش حد تانى، هنتخب مين ولما فكرت فى المقاطعة لقيتها مش حل وسلبية أكتر»، لا أمل فى الغالب لدى «أحمد» فى أن يفوز «حمدين» بالرئاسة فى ظل الزخم الشعبى المحيط بالمشير، ولكنها الفرصة الوحيدة أمامه، لكى يثبت أن «السيسى» لا يستحقها وأنه غير مؤهل لرئاسة الجمهورية «الراجل إحنا ماكناش نعرفه كويس وشوية الخطابات لم تكن تظهره بوضوح وهو ما حدث بعد البرامج المتعددة التى ظهر فيها التى أثبتت أننا أمام ديكتاتور لن يسمح بالمعارضة»، يتذكر «أحمد» تأييده للمشير السيسى إبان الثالث من يوليو «نزلت التحرير والاتحادية ورفعت صوره فى 3 يوليو وكنت شايفه بطل لحد اللحظة اللى قرر فيها إنه هيترشح للرئاسة بعد قسمه بولائه لمنصبه وعدم طمعه فى أى مناصب أخرى»، لم يكن هذا هو السبب الوحيد وراء تخلى «أحمد» عن دعم «السيسى» فى انتخابات الرئاسة، ولكن دعم قيادات الحزب الوطنى بمنطقة الحسينية وباب الشعرية -حيث يسكن- كان له أكبر الأثر فى ذلك «كل أسامى اليفط اللى مالية الشوارع رجال الحزب الوطنى بيحاولوا يغيّروا جلدهم ويتخفوا ورا الشباب اللى زى أخويا بس برضو الناس عارفاهم».
اقتناع «سامح» بمرشحه لم يجعله يرفض انتقاد بعض المظاهر المحيطة به ويرفضها، خاصة فى تعامل الحملة مع أعضائها الشباب «المشكلة أن الحملة ما بتسمعش رأى حد، وأى حد له رأى مختلف فى أى حاجة بيكون ردهم خلاص ما تنتخبوش مش فارق صوتك.. ده مش صح طبعاً وبيخسّرنا كتير»، لم يفرق مع «سامح» وجود برنامج انتخابى من عدمه، ولم يتوقف كثيراً أمام سخرية البعض من كلمات الرجل بأن البرنامج «أمن قومى»، معللاً ذلك بأنه يصدقه حتماً «ممكن طبعاً يكون البرنامج مستهدف، ليه لأ، ولو أعلن عن أى حاجة فيه ممكن يبدأوا يحطوا عراقيل قدامه عشان ما يقدرش ينفذ». يثق «سامح» فى أن كل قدرات الدولة ومؤسساتها ستقف بجوار مرشحه، عكس «حمدين» الذى سيعيد ما حدث مع الإخوان مرة أخرى «ماحدش ينكر أن السنة اللى عدت فى حكم الإخوان ماحدش كان بيساعد فيها الراجل والبلد كلها كانت ضده من أول يوم وإحنا مش عايزين نكرر التجربة دى تانى مع حمدين»، يبدو على «أحمد» الاقتناع بكلام أخيه لأول مرة «ساعات بحس إننا ظلمنا مرسى وماخدش فرصته كاملة وخصوصاً لما بشوف التهم اللى موجهة ضده وفى الآخر يطلع المرشح يقول الجيش لازم يقدم التحية للرئيس، حتى ولو كان خاين»، يبدأ «سامح» فى الاستعداد للانقضاض على «أحمد» وتستعر المناقشة «يعنى هو حمدين كان بيعمل إيه ساعتها ولّا هو كان يقدر يعمل إيه هو وجبهة الإنقاذ لو السيسى ماخدش القرار اللى خده وهو عارف إنه ممكن يفشل ورقبته تبقى على حبل المشنقة»، تتدخل الأم فى اللحظة الحاسمة قبل أن تندلع الخناقة اليومية «كفاية بقى».
ظهور «السيسى» على التليفزيون لأول مرة كان سبباً فى نشوب المشاجرات بين الأخوين، فبين محاولات «سامح» تبرير بعض ما جاء فى الحوار، وبين «تريقة» «أحمد» انقضى أسوأ أيام الحاجة أم أحمد فى منزلها الصغير «أنا بحب السيسى صحيح لكن ما أحبش ابنى يشتغل على عربية خضار»، هذا أكثر ما يقلق الأم على مستقبل ابنها، الذى ما زال يدرس فى كليته، متمنية أن يصبح محامياً، مثل أخيه أو وكيل نيابة «يعنى هو صعب علينا أوى بعد ما نطفح الكوتة ونربى عيالنا ييجى فى الآخر يشتغل على عربية خضار، طب كان لزومه إيه».
ما يخيف الأم لم يشغل بال ابنها الصغير «سامح»، الذى يثق فى أنه لن يكون من أصحاب الألف عربية خضار، يقول: «أكيد بعد ما هتخرج بعد سنتين هتكون ملامح الحياة اتغيرت وابتدت فرص العمل اللى هتتوفر تظهر ملامحها وحل العربيات الخضار ده حل مبدئى لانفراجة مؤقتة».
المناظرة بين المرشحيْن، الطقس الانتخابى الغائب فى انتخابات 2014، ظهر بقوة فى منزل الحاجة «أم أحمد» فهى الحَكَم بين ولديها، إذا احتدم النقاش واشتدت وتيرة الصراع «المناقشات ما بتخلصش عن البرنامج الانتخابى وعن الناس المؤيدين وحتى عن اليفط اللى كل يوم بتظهر فى الشارع، كل يوم لهم خناقة عن حاجة جديدة لحد ما قررت إنى أريح دماغى وأسافر البلد لحد الانتخابات ما تخلص».. تقول السيدة الستينية التى قررت أن تترك المنزل قبل أيام قليلة من المواجهة المنتظرة «أنا من جوّايا مع السيسى، لكن مش قادرة أقولها عشان ما زعّلش أحمد وعندى أسئلة كتير بابقى عايزة أسألها لسامح عن البرنامج وحق الشباب اللى راحوا بس باسكت عشان ما يزعلش هو كمان»، الحديث عن الانتخابات المقبلة هو حديث الساعة فى كل بيت وكل تجمع سواء كان هذا الجمع مجموعة من الرجال يقضون وقتاً على مقهى أو مجموعة من النسوة يشترين احتياجاتهن من السوق «حتى وأنا بجيب الخضار واللحمة مافيش حد ما بقاش بيتكلم فى السياسة سواء كان بيؤيد السيسى أو مؤيد للسيسى»، تقول أم أحمد ضاحكة «مافيش هنا بديل.. الكل عايز السيسى.. باب الشعرية مافيهاش حمدين».
اليوم المقسم ما بين جامعة «سامح» وامتحاناته وبين الحملة الانتخابية للسيسى وتوزيع اللمبات الموفرة والمشاركة فى الفعاليات يختلف تماماً عن يوم «أحمد» المقسم بين عمله الصباحى فى المحكمة، وبين عمله فى مكتبه الخاص ليلاً، فهو قرر ألا يشارك فى أى حملات دعم لحمدين سواء كانت رسمية أو شعبية «مش عايز أشارك عشان مش عايز الأمل يكبر جوايا، كفاية اقتناعى أنا الشخصى بيه، لكن ده ما يمنعش إنى بحاول أنقل وجهة نظرى من خلال الإنترنت ومواقع التواصل».
لم تكن «حمدنة» «أحمد» هى فقط المفارقة الوحيدة فى حياة «سامح»، السيساوى العتيد، بل كانت «أخونة» أصدقائه فى الجامعة هى كذلك علامة استفهام «أصحابى فى الجامعة عارفين إنى أؤيد السيسى وأنا عارف إنهم إخوان وبيشاركوا فى كل الفعاليات اللى بتطلع ضده لكن ده ما خلانيش أفقدهم كأصدقاء لأننا اتفقنا إننا نبعد أى خلاف ما بيننا وتبقى الصداقة فقط»، «سامح» أكد أن حبه للسيسى لم يدفعه لكراهية أصدقائه الإخوان، حتى بعد قيامهم بأعمال شغب وتحريض ضد الشرطة والجيش فى الجامعة «هما بيعبروا عن رأيهم وشايفين إنهم معاهم حق، أنا ماليش دعوة طالما إنى متأكد أن معركتهم مع الشرطة ما بتؤذيش حد».
ما فعله «سامح» مع أصدقائه يحاول جاهداً أن يفعله مع أخيه «أنا عارف أن كل ده فترة وهتعدى وهنرجع زى الأول لأن اختلافنا فى الرأى لا يفسد للود قضية وإحنا إخوات العلاقة ما بينا أكبر من مجرد اختلاف على رئيس الجمهورية».
لم يحاول «أحمد» أن يقف فى طريق أخيه أو يمنعه من التواصل مع الحملة الرسمية أو الشعبية للسيسى أو الخروج فى مسيرات التأييد، لكنه قرر أن المنع ليس حلاً، وأن أخاه الصغير لم يعد صغيراً، كما يعتقد، وأن ما يحدث الآن ويشارك فيه سيكون عاملاً حاسماً فى تشكيل وعيه السياسى خلال السنوات المقبلة «كلنا وإحنا صغيرين كنا متخبطين مش عارفين نروح لأى اتجاه وكتير منا كان بيكره الوصاية اللى الكبار بيفرضوها عشان كده مش عايز أعمل ده معاه وسايبه لحد ما فى يوم هيندم على دعمه للسيسى ويتمنى التاريخ يتعاد».
«إنتم ما تعرفوش إنكم نور عنينا ولّا إيه»، جملة يراها «أحمد» متكررة كل يوم، تحيط به من خلال تلك اللافتات المعلقة على الجدران والمحلات التى تحمل الأقوال المأثورة للمشير السيسى من خطاباته الشهيرة، التى جعلها «سامح» نغمات لتليفونه المحمول، يسمعها «أحمد» كل ساعة لتكتمل دائرة الحصار «السيساوى من حوله» بدعاء والدته للسيسى عقب كل صلاة «ربنا ينصره على أعاديه»، دعاء لا ترجو من ورائه جزاء ولا شكوراً، بحسب قولها.
المواجهة التى يخشى منها الجميع مقبلة، واليوم المنتظر اقترب ومعه لحظة الحسم، اليوم الذى انتظره المصريون جميعاً، حبسوا أنفاسهم طويلاً من أجله، وأطلقوا الأغانى ابتهاجاً بالوصول لهذا الموعد.
غداً «الاثنين»، لن يمر سهلاً لدى «أم أحمد» التى تعرف أن ابنيها على طرفى المواجهة فى ذلك اليوم، ورغم دعواتها للسيسى بالنجاح، فإنها تدعو «يارب عدّيها على خير»، فقلبها تركته فى القاهرة مقسّماً نصفين بعد أن فضلت أن تنجو بنفسها من حضور تلك المواجهة لتقبع فى البلد بجوار قبر الأب، تتذكر وصيته لها بأن تحافظ على الأبناء.
ابنها الأول يقبع فى مقر حملة حمدين «رمز النسر»، يتابع الموقف حتى لحظة الحسم والثانى سيؤدى المهمة نفسها فى إحدى لجان عبدالفتاح السيسى «رمز النجمة»، النتيجة المحسومة -كما يقول الكثير من المتابعين- تخشاها «أم البنين» بقدر ما تنتظرها «خايفة يقفوا قصاد بعض فى لجنة واحدة ولاّ تحصل عركة ولّا حاجة ويلاقوا نفسهم بيشدوا فى بعض»، يضحك «أحمد» محتضناً «سامح» وهو يسمع كلمات أمه «إيه يا أمى الكلام ده، إحنا مش صغيرين ومهما حصل فوز حمدين مش هيؤثر فى علاقتنا»، يضحك «سامح» لجملة «أحمد» الأخيرة «قصدك فوز السيسى مش هيؤثر فى علاقتنا».
تنوية هام: الموقع غير مسئول عن صحة أو مصدقية أي خبر يتم نشره نقلاً عن مصادر صحفية أخرى، ومن ثم لا يتحمل أي مسئولية قانونية أو أدبية وإنما يتحملها المصدر الرئيسى للخبر. والموقع يقوم فقط بنقل ما يتم تداولة فى الأوساط الإعلامية المصرية والعالمية لتقديم خدمة إخبارية متكاملة.