الأمل في أن يتجه رئيس مصر القادم إلى السير في الطريق المستقيم لتحديث البلاد، وانتشالها من حالة الفشل الراهنة، لا يقوم بالأساس على امتلاك هذا الرئيس أو ذاك لرؤى سياسية ناضحة وحداثية. فواضح أن هذا الشرط غير متوفر في مرشحي الرئاسة.
الأمل هو في امتلاك الرئيس للحد الأدنى من العقلانية، ما يجعله ينصاع لضغوط الواقع وشروطه الحاكمة، لكل من أراد تعويم مركب بلاده المتخلفة عن ركب الحضارة العالمية الراهنة، والوصول بها إلى بر الأمان. فليس صحيحاً أن الأفكار تنبع من العقل الإنساني، بمعزل عن ظروف الواقع المادي، لتقوم هي بتشكيله وفق رؤاها الطوباوية، فكل من سلكوا هذا المنهج، تحطمت رؤوسهم على صخور الواقع النارية.
فالصحيح هو أن مصير أي شعب، يحدده نتاج تفاعل وجدل الفكر مع الواقع، هذا بالطبع بالنسبة لمن لا يفشلون في التلامس مع الواقع، وإجادة قراءته. أيضاً لن تحقق الأمة المصرية الحياة الأفضل، فقط بناء على قدرات حاكمها وأصحابه، فهم مجرد جزء من كل غير قابل للتقسيم وفصل المسئوليات، يشمل مجمل المجتمع، بعامته ونخبته وحكامه. وكما يصعب إن لم يستحل على الحاكم الفاسد أو الفاشل، إفساد وإفشال شعب صالح وحيوي ومستنير، كذا يصعب على حاكم ونظام حكم مستنير، إصلاح أحوال شعب مهلهل، بائد الفكر رديء وفوضوي السلوكيات.
هنا يجدر بنا ملاحظة أنه لا يصح تقييم الأفراد والأمم، بناء على لحظات استثنائية تأتي عليها، فتكون في أوج قوتها أو أفضل حالاتها. ينبغي أن يتم التقييم لمسيرتها العامة على مدى زمني كاف للحكم علي قدراتها وطبيعتها. هكذا لا تدل على كثير، لحظات مثل الساعات الأولى من حرب أكتوبر 1973، والثلاثة أيام الأولى من ثورة 25 يناير 2011، والأيام ما بين 30 يونيو إلى 26 يوليو 2013!!. والتركيز على تلك اللحظات الاستثنائية من مسيرة المصريين، لا يؤدي إلا إلى استشعار قوة وعظمة وهمية، تصرفنا عن البحث عن مواطن الخلل والقصور، إلى التغني بصفات وأمجاد مفارقة لواقع الحال. التغيير من أعلى، أي بدءاً بقمة الهرم السياسي، وهو نظام الحكم، هو مجرد وهم جميل.
مثله مثل الحلم بامتلاك خاتم سليمان، الذي يحقق لك كل أمنياتك، وأنت مسترخ. ها نحن خلال ثلاث سنوات، بذلنا الكثير لتغيير أنظمة الحكم، وهدمنا في معرض هذا، كل ما امتدت إليه أيدينا من مقومات حياتنا. ومن الواضح لكل ذي عينين، أن أقصى ما نستطيع تحقيقه الآن، هو ترميم ما تهدم، لنعود أقرب ما نكون إلى نقطة البداية. ذلك أن شرط أي تغيير حقيقي لم يتوفر بمصر حتى الآن، وهو التغيير في القاعدة. تغيير نظرة الناس لأنفسها وللحياة. تغيير القيم والرؤى والسلوكيات. هناك أعمدة رئيسية ينبغي إعادة ترميمها، بعدما هدمتها هوجة 25 يناير وما تلاها: 1- عودة هيبة الدولة والشرطة لدى الناس. 2- عودة ثقة الوزراء وكبار المسؤولين في أنفسهم وفي دولتهم، فلا يجبنوا عن اتخاذ ما يجب عليهم اتخاذه من قرارات، بعدما حدث من تنكيل بمسؤولي عهد مبارك. 3- عودة ثقة المستثمرين مصريين وأجانب في القوانين والقرارات المصرية، وفي التزام الدولة باتفاقياتها وعقودها التي تبرمها، بعدما شهدته الفترة الماضية من مهازل. 4- السلطة القضائية بحاجة إلى جهد كبير ومخلص، لتكون على المستوى المطلوب لدولة حديثة حرة وديموقراطية. بدون إقامة هذه الأعمدة التي تصدعت خلال الفترة الماضية، لن تفلح أي محاولات لإقامة مصر من سقطتها الراهنة. بعد هذا ربما كانت أكثر القضايا إلحاحاً، ليست رفاهية اقتصادية، نبحث عنها دون توافر مقوماتها. نقطة البداية الحقيقية، هي تأهيل الإنسان المصري، أو بالأحرى الثروة البشرية المصرية، لتتحول من "أفواه وأرانب"، إلى قوى منتجة قادرة ومقتدرة. هنا تبرز مشكلة التعليم. هناك نظرة خاصة لمشكلة التعليم في مصر، تختلف عن كل ما يراه الخبراء، من أن مشكلة التعليم في أبنية المدارس والمقررات وتأهيل المدرس والمعامل وما شابه. ترى تلك النظرة أن المشكلة الأساسية في الطالب وولي أمره، الطالب الذي يريد الشهادة العلمية، ولا يريد التأهيل العلمي.
والذي لا يؤمن بقيمة العمل الجاد، وبالتالي لا يرى أهمية للتأهيل العلمي، كضرورة لإجادة العمل. الطالب هو "المشتري" للبضاعة العلمية، وهو وحده الكفيل بإجبار "البائع"، وهم كل من يساهم في العملية التعليمية، على تحسين بضاعته. ولعل ما يحدث في الجامعات الخاصة باهظة التكاليف، من انعدام التأهيل العلمي الحقيقي، وما يحدث من عملية "بيع" للشهادة العلمية مقابل المصروفات الفلكية، لخير دليل على هذه الرؤية. . ما حدث أخيراً أياً كانت الدوافع، أن حملة السيسي الانتخابية، صاحبها دعاية وترويج لقيمة العمل وبذل الجهد. هذا ما نرجو أن يستمر، حتى تأخذ "قيمة العمل" مكانها، على رأس منظومة قيم الإنسان المصري. مهما كان تقييمنا لحالة مصر الراهنة، ورؤيتنا وتوصيفنا لما شهدته البلاد من أحداث منذ 25 يناير 2011 وحتى الآن، فإن الثابت الأكيد، أن الشعب المصري الساكن الراكد المستكين، قد بدأ نوبة صحيان.
قد يراه البعض يترنح، أو يتخبط، أو يتراجع للوراء. لكن كل هذه التوصيفات تعبر عن حالة حيوية. أتمنى لنفسي أولاً، أن أتحلى بقدر من الصبر الجميل، حتى نرى نتيجة هذا الحراك والصحيان، فالشعوب لا تكتب تاريخها ومصيرها في بضع لحظات أو أيام أو سنوات.
kghobrial@yahoo.com
نقلا عن إيلاف