المنيا سالي صلاح
قال نيافة الانبا مكاريوس اسقف عام المنيا انه يوجد عمودان عظيمان في الإسقيط المقدس، اجتذبا الكثيرين بسبب التناقض الظاهر بين طريقة حياة كلٍّ منهما قبل وبعد الرهبنة، فموسى الذي كان لصًا عنيفًا يكره الناس وهم بدورهم يهربون منه، يصبح مضيافًا لطيف المعشر، ساترًا خطاياهم، والذي كان لقبه «الشيطان الأسود» استأسد في حربه مع الشيطان، حتى أن الآباء نصحوه أن يخف في قتاله معهم!
أماّ أرسانيوس والذي كان مترفًا متنعمًا في القصر، عالمًا في روما، مكرَّمًا في القسطنطينية، معلِّمًا للملوك، فقد صار طعامه الخبز اليابس والقليل من البقول، وشرابه قليل من الماء مع كثير من الدموع، وبعد أن كان خطيبًا مفوَّهًا، أصبح مثالًا للصمت، والذي لم يجدوا أفضل منه معلمًا في روما، صار مولعًا بالتعلُّم من الآخرين، والمتأدِّب باللاتينية واليونانية، يلتمس أن يتعلم «ألفا فيتا» في طريق الفضيلة من راهب بسيط!
كلاهما أفاق على أن الحياة عبارة عن منام سيتلاشى، وأنه لن ينفع الإنسان سوى خير يقدمه ليجده أمامه، فدخلا بالفكرة إلى حيّز التنفيذ؛ فبينما قرّر أرسانيوس ترك البلاط متجهًا إلى الإسقيط، اتجه موسى إلى البرية يبحث عن الإله الحقيقي، وحالما وجده أمسك به ولم يرخه.
وبينما اتسم تدبير القديس أرسانيوس بالصرامة، يقابل الزائرين في حدود ضيقة، بالنادر من الكلام، فقد استقبل موسى زائريه، وتجاوز مرة قانون الصوم من أجل قانون المحبة.
كلاهما أيضًا واجه حرب أفكار عنيفة، فكان موسى يصرخ للرب: «إني أريد أن أخلص ولكن الأفكار لا تتركني»، بينما أزعجت أرسانيوس الأفكار فتنقّل عدة مرات بين الإسقيط وكينوبيس وطُره.
وفي النهاية قَبِل الأنبا موسى أن يُقتَل ببد البربر -بما أنه كان قتّالًا للناس- متذكِّرًا العدل، وصار الشهيد الأول في شيهيت؛ بينما يوصي القديس أرسانيوس بعدم الاهتمام بجسده بعد نياحته، بل طلب إليهم أن يجرّوه بحبل إلى قمة الجبل لعل الوحوش والجوارح تنتفع به.
وهكذا قدم كلٌّ منهما شهادة للمسيح، فاجتذبت سيرة الأنبا موسى للمسيح الكثير من اللصوص الخطاة الذين قرأوا سيرته لاحقًا، إذ صار نموذجًا في التوبة القوية؛ بينما اجتذب القديس أرسانيوس العديد من شباب روما والقسطنطينية الأرستقراطيين.
وعندما تحيّر راهب من اختلاف منهجيهما، رغم أن كليهما يفعل ذلك من أجل الرب، رأى في منامه وإذا بسفينتين تسيران في عرض البحر، الأولى بها حركة وأنوار، والثانية تسير في هدوء، وكلتاهما وصلتا إلى الشاطئ، كان في إحداهما القديس موسى، والأخرى القديس أرسانيوس، كلاهما كان يفعل ذلك من أجل الرب. لذلك سُمِّيت سير الآباء بـ«البستان»: مليء بالفاكهة والزهور، متعدِّدة ولكنها تكمّل بعضها بعضًا