مهندس عزمي إبراهيم
كتب الأستاذ نعيم يوسف خبراً في الأقباط متحدون بتاريخ 5 مايو 2014، بعنوان السيسي: "الخطاب الديني أفقد الإسلام إنسانيته". ونص الخبر كالآتي:
"قال المرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي إن الخطاب الديني في العالم الإسلامي بكامله قد أفقد الإسلام إنسانيته، مشيرا إلى أنه نشأ في حي لا يعرف التمييز على أساس الدين وقد تربي على أيدي الشيخ الشعراوي.
وأوضح المرشح الرئاسي– خلال لقائه اليوم، الاثنين، على قناة "سي بي سي الفضائية" – أننا في العالم الإسلامي قدمنا ربنا بشكل لا يليق، موضحا أن الحاكم لا يجب أن يكون داعية ولكن هو مسؤول في النهاية عن الدولة بكاملها. وأشار السيسي إلى أن الحاكم لابد أن يكون متابعا لما يحدث في المجتمع ولكنه مسؤول في النهاية موضحا أن هناك فرق بين إسلام الفرد وإسلام الدولة، فالفرد الذي يصلي هذا بينه وبين ربه، أما الدولة فهي بها طوائف كثيرة لابد من مراعاتها."
انتهى الخبر.
أقول أن الإنسانية هي العمود الفقري للدين، أي دين. وإذا خلا الدين من النوازع الإنسانية فهو ليس بدين. وجميع الأديان تحتضن الإنسانية، أي العدل والرحمة و السلام والمحبة والحكمة وإعمال العقل لصالح البشرية. وما تحتاجه مصر اليوم، بل ما يحتاجه العالم كله، هو الإسلام الإنساني. أي الإسلام الذي يهتم بالسلام والاستقرار للبشرية عامة. والذي يهتم بالإنسان غير المسلم حيثما كان لا أقل عن اهتمامه بالمسلم. وهذه هي رسالة الأديان.
المسلمون في حاجة إلى الإسلام الإنساني الذي يكفل ما أراده الله للبشر أجمعين، من إخاء ومساواة وعدالة وتعايش ومودة، تحت حكم “القانـون” العادل المطلق في عدله، لا تحت مباديء “الشريعة” التى لا تعرف العدل بل تحابي فصيلاً بعينه دون باقي الفصائل في الوطن حتى من نفس الدين. وإن بدا هذا للبعض أنه يتناقض مع بعض آيات الإسلام أو مباديء الشريعة، فهو لا يتناقض إطلاقاً مع الكثير والعديد من المباديء الإنسانية في الإسلام. لو شاء المسلمون طريق الإنسانية.
لا يختلف اثنان أن في عصر نهضة النصف الأول من القرن العشرين، شاهدت مصر بمسلميها ومسيحييها ويهودها وكل من حمل جنسيتها من أي عقيدة، أزهي وأسمى صورة للإسلام الإنساني بسماحته وكرامته وبعده عن الحكم والسلطة. إلى أن جاءت خمسينات القرن، ولوَّح عبد الناصر بالشعار العروبي الأجوف، فبدت تكشيرة الإسلام المتشدد تبدو في الساحة المصرية التي كانت أقرب ما تكون للديموقراطية العادلة الكريمة في حمى أزهرها الشريف راعي الإسلام حينئذ، ومرجع المسلمين بالشرق العربي وبالعالم أجمع.
وما أن حَلَّت السبعينات من ذات القرن حتى فتح السادات أبواب مصر و(أبواب السجون) للإسلام المتشدد ليخطو بخطاه الثقيلة وعباءته السوداء في شوارع مصر وخلاياها ومؤسساتها. حتى قام المتشددون، الذين أطلق السادات صراحهم من السجون، باغتياله في أوج احتفاله وفي لحظة فخره. وشاء الأزهر الشريف حينئذ وخلال نمو الإسلام المتشدد، النابت من الأخوان والمستورد من الوهابيين، أن يغض الطرف عنهما أو غير مقدر لخطورتهما، حتى استقوى الشر والأشرار في مصر.
وفي عصر مبارك تزايدت أمواج وأفواج الوهابية المتخلفة المتشددة مستوردة من السعودية بجيوب وحسابات بنوك مفعمة بالدينارات النفطية. وبتضامنها مع الأخوان المسلمين ذات الأهداف السلطوية اللاوطنية استفحل المارد في غفلة أو تغافل من مبارك وعلا صوت التشدد حتى امتلك الشارع المصري ونواصيه ومؤسساته وأزهره وحتى طال كرسي الحكم بتجليس مرسي الأخواني الهارب من السجن رئيساً على لمصر.
فتح مرسي أحضانه، بل أحضان مصر، للإرهاب والثعالب والذئاب والكلاب والذباب، حيث عفى عن كثيرين من المحكوم عليهم، واستدعى الكثيرين من كل صوب من الأخوان الهاربين من أحكام قضائية والوهابيين السلفيين والقاعدة وحماس والجماعات الاسلامية من أفغانستان واليمن والصومال والسودان وليبيا وغزة وأوروبا وافريقيا وآسيا وأمريكا.
وركز مرسي من أول يوم في حكمه على برنامج (التمكين) ليقبض الأخوان (أهله وعشيرته) على جميع مفاصل مصر الحيوية من حكومة ومؤسسات وجامعات ونقابات وإعلام والسلطتين التشريعية والتنفيذية تنفيذاً لقسَمِه للجماعة ومرشدها الحاكم الفعلي لمصر، دون النظر إلى شعب مصر المنكوب والمغلوب والمدفون في فقر وجوع وبطالة ومرض وبؤس وموت. بينما كان الأخوان والسلفيون وأذناب حماس وباقي الجماعات يعيثون في مصر فساداً ويرتعون فيها بلا قيود أو ضيق.
عمل مرسي بكل جهده علي تقسيم مصر شعباً وأرضاً، وإضعاف جيشها والقضاء علي شرطتها واندحار قضائها وإنهيار اقتصادها وإفساد التعليم بها، وبيع مفاصلها ومعالمها وآثارها وثرواتها ومواردها الحيوية: مؤسسات ومصايف ومشاتي لخيرت الشاطر وأمراء السعودية ودول الخليج، وقناة السويس لحكام قطر، وسيناء لغزة بل لقادة حماس، وشلاتين وحلايب للسودان، وأهدى غرب مصر على حدود ليبيا مركزا للقاعدة. وبالاضافة لهذا وذاك ضرب مرسي والأخوان وسطية وصحيح إسلام مصر السمح بالتشدد الوهابي الأسود وإنهاء الدور العالمي للأزهر الشريف. وكل فعل من هذه الأفعال هو جريمة وطنية تندرج تحت وصف الخيانة العظْمى.
***
تلك كانت خطوات تدَرُّج الإسلام المتشدد في نخاشيش مصر الحديثة. حيث رفع راية سوداء فوق أرض مصر الخضراء، بل أقام خيمة سوداء تحجب سماءها الصافية وشمسها الساطعة عن أرضها وشعبها الطيب. خيمة (أو خيبة) فاحت من تحتها الروائح الكريهة من عفن دماء مسفوكة وأشلاء مبتورة متناثرة ومنشئات مُفجَّرة وأخلاق مهدورة
حتى وصلت مصر إلى أدنى وأحط حضيض بشري ووطني تحت حكم الإسلام المتشدد.
ويفرح البعض منا، مسيحييو مصر ومسلموها المعتدلون، بالقول أن الأزهر يتبنى أو كان يتبنى “الإسلام الوسطي”.أنا لا أقر هذا الوصف. فالوسط لابد أن يكون بين نقيضين مختلفين تماماً. كاللون الرمادي متوسط الأبيض والأسود، وكالدافيء متوسط البارد والساخن. فالإسلام الوسطي يعني وسط بين الإسلام المتشدد والإسلام المتراخي. وليس هناك في التاريخ كله ما يمكن تسميته بالإسلام المتراخي. فطبيعة الإسلام منذ مولده عنيف. والحقيقة ليس هناك إلا إسلام متشدد في أغلب تاريخه... إلا قبس ضئيل أشرت إليه في الفقرة الثالثة من مقالي.
نعم، هناك إسلامان. هناك إسلام عنيف متشدد ظالم يحمل سلاح الشريعة الغير مناسبة ويحاول أن يفرضها على وطن متعدد العقائد، مستنداً على المتشدد من آيات قرآنية وأحاديث نبوية صدرت في مواقف وظروف بدوية جاهلية عفى عليها الزمن ولا تتناسب مع عصورنا الحضرية، ومعظمها مزيف أو مشكوك فيه. وهناك إسلام إنساني لم تراه مصر إلا في عصر نهضتها الرائعة. إسلام إنساني يتبنى ما بالإسلام من آيات خيِّرات. فبالاسلام من العدل والإنصاف للبشرية جمعاً أطنان يغفل المتشددون والمتطرفون النظر إليها عمداً، لغرض الاتجار بالدين بين البسطاء.
إن الله هو العدل ذاته، وصفة من صفاته، وسٍمَة من سِماته، واسم من أسمائه. فمن يحيد عن العدل يحيد عن الله، ومن لا يؤمن بالعدل لا يؤمن بالله. والعدل هو صُلب الدين وجوهره فلو خلا الدين، أي دين، من العدل فهو ليس مكتملاً كدين.”
وكلامي هذا ليس ضد الإسلام. فبالاسلام الكثير من مباديء االعدالة والإنسانية لو أراد الإسلاميون وجماعاتهم التمتع بتطبيقها. ولكن المتأسلمين والهيئات المبدعات التى تطلع علينا كل يوم بأسماء وألقاب وعناوين وبيانات وشعارات وفتاوي أشكالاً وألواناً كلها محشوة بالظلم ومبنية على الظلم وتخلو من العدل والعدالةـ أي تخلو من الإنسانية وهي العمود الفقري للدين... ولا من رادعٍ أو ناصحٍ لهم.
وإذ أنا أعيبهم وأعيب ظلمهم وشرهم، بل وكفرهم بالله حيث أن الله هو العدل ذاته، ألوم السلطات والهيئات الإسلامية المسئولة بمصر وعلى رأسهم الأزهر الشريف وفضيلة المفتي لعدم تصديهم لهذه التيارات المتشددة المنحرفة كالرياح والأعاصير الهوجاء التي تعصف بسلام مصر وسلامة شعبها. هناك ملايين من الأخوة المسلمين العاقلين المؤمنين بالعدل الإنساني يرفعون أصواتهم ضد هذه العواصف الصحراوية، ولكن لا نسمع صوت الأزهر الشريف ومفتي الديار!!
الحقيقة المؤلمة هي أن الأخوان والسلفيين ومن شابههم لم يبتدعوا شيئاً جديداً في معتقداتهم وتصرفاتهم البدوية الهمجية المتخلفة، وهم لم يطرقوا طريقاً لم يطرقه غيرهم من قبل. فمنذ أن استَعمر العرب مصر ما عدا فترة نهضتها الرائعة في النصف الأول من القرن العشرين، ومصر تكبو وتئن تحت نير الإسلام المتشدد الذي عانى منه المواطن المصري، مسلم ومسيحي وغيرهما. ففي 1400 سنة حتى اليوم ظلت مصر متقوقعة متأخرة تسيح في جهل وفقر ومرض وجوع وظلم وتعصب ولم تتقدم خطوة واحدة للأمام ولم ترقى ثقافياً أو اقتصاديا أو اجتماعيا، إلا في تلك الفترة المشار إليها تحت رعاية الحكم المدني الذي ألزم الإسلام أن يكون إنسانياً.
ملحوظة: بحثت فلم أجد أمامي (هيئة) أو (مؤسسة) بمصر أو بالشرق يمكنها توجيه المسلمين إلى التعاليم الإنسانية وتنقية الإسلام من الشوائب المدسوسة والغير مناسبة، إلا الأزهر. أرجو أن يأخذ الأزهر مركزه في القيادة الإسلامية ويبدي وطنيته وهويته المصرية وينادي بإبعاد الدين عن الحكم، من دستور لسياسة وبطاقات واستمارات، وعدم استعماله وسيلة للتمييز بين المواطنين في جميع الشئون الحياتية، فالكل مواطنون.
وأن يُحَرِّم ويُجَرِّم ويطالب دولة (القانون) بمعاقبة الفقهاء والدعاة وتجاار الدين على ما يبدون من الهلوسة التي تثير نفوس البسطاء والمغرضين وتسبب القلقة الأمنية بالوطن. بذلك يكون الأزهر شجاعاً وإنسانياً فينمو الإسلام الإنساني وتصفو الحياة ويزدهر الوطن.
هذا هو السر وهذا هو الخيار: إما أن تتخاذل الحكومة ويتخاذل الأزهر الشريف ويستسلما للإسلام المتشدد وحكم الشريعة، حكم القبيلة الظالم المتعصب المتواطئ مع فصيل دون الآخرين. ويرضى بتقوقع الوطن في أعماق مستنقع الضياع.
أو تنتفض الحكومة وتفرض حكم القانون لا حكم الشريعة ولا حتى إشارة بالدستور إلى الدين إلا بحماية وحرية الأديان والعقيدة، وينتفض الأزهر الشريف لرسالته وواجبه من أجل رفعة الوطن، بل ومن أجل كرامة الإسلام.
حينئذ يُضفى على الإسلام ثوب الإنسانية تحت عدل القانون المدني المساوي لجميع المواطنين مهما اختلفت عقائدهم، وتحت شعار الدين لله والوطن للجمبع والحكم للقانون. وهذا ما تحتاجه مصر.