بقلم: كمال غبريال
نعرف أن الدعوة لله لابد وأن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يكون الحوار على وجه العموم، والديني على وجه الخصوص بالتي هي أحسن، لكي يرى الناس أعمالنا الصالحة، فيمجدوا أبانا الذي في السماوات.. هذا هو الدين والتدين الذي نشأنا عليه جميعًا في مصر.. نعرف أيضًا أن الإنسان يذهب للصلاة في دور العبادة، لكي يتلقى شحنة روحية، تدفعه للتواصل مع السماء، وتمتص – ولو إلى حين- نزعات الشر والبغضاء البدائية لدى الإنسان، أو تلك التي تولدت خلال تعاملاته الحياتية، الحافلة بالأفكار والمشاعر السلبية، فيخرج الإنسان من دار العبادة وكأنه ولد من جديد، ليتصرف –ولو لبعض الوقت- كما لو كان ملاكًا، حتى لو عاد العالم بعد ذلك بما يحفل به من شرور، لجذبه من جديد إلى التلوث..

دار العبادة إذن هي مكان للتطهر من الشرور والآثام، وليست بأي حال منبرًا للتحريض على الكراهية والعداوة والقتل والتخريب.. هكذا تكون الصلاة الجماعية الأسبوعية، والموجودة في جميع الأديان، وكذا مواقيت الصلاة اليومية بامتداد الليل والنهار، هي مناسبات دائمة للتطهر من الشرور، ولا يمكن بأي حال في ظروف طبيعية وتدين صحيح وصحي، أن تتحول لعكس هدفها واتجاهها، فتكون كما لو قنابل أو ألغام تتفجر ذاتيًا، لتنشر الخراب وتسفك الدماء.. كما عرفنا ضمن ما عرفنا في الماضي، أن رجال الدين عمومًا، هم رجال الطيبة والعدل والتسامح، وليسوا بأي حال مجرمين أو محرضين على الإجرام.. فهل ما يحدث الآن يمت بصلة لما عرفناه، أم هو أمر آخر لا يأخذ من الدين إلا المظهر والشكل الخارجي، أما القلب فمختلف تمامًا، بل ومضاد لكل ما نشأنا عليه؟

إذا كان الدين بالدرجة الأولى -وربما الأخيرة أيضًا- هداية للناس، ونورًا ومحبة للخالق والمخلوق، فأين نحن من هذه الهداية باعتبارنا أشد الشعوب تدينًا؟!!.. هل الشعوب المهتداة تكون في مؤخرة شعوب العالم في جميع مجالات الحياة؟.. هل من قبيل الهداية أن نفشل في كل ما نعمل، فتغرق منا العبارات في البحار وتتصادم القطارات، وتختلط منا مياه الصرف الصحي بمياه الشرب، ويغرق شبابنا في مياه البحر وهم يهربون من جحيم الفقر والتخلف، وينتشر في بلادنا الفساد، بداية من القاعدة حتى القمة؟!!

أن نفتقد لثمار التدين الحقيقي البناء شيء، وأن نستغل الشكل الديني ونوظفه لنوازعنا الإجرامية شيء آخر، هو بلاشك أكثر خطورة، كما هو أكثر مفارقة للدين والتدين الحقيقي.. هي جريمة ما بعدها جريمة، أن نتخفى في ثياب الدين، لنمارس كل انحرافاتنا الأخلاقية والسيكولوجية.. عصابات القتل والإجرام الدولية الحالية، والتي تمتد أذرعها إلى سائر أركان الدنيا، تمارس إجرامها باسم الدين، وتوهم البسطاء بأنها تقوم بكل ما تقوم به، انطلاقًا من مقولات دينية، وتنفيذًا لوصايا إلهية.. بادعاء أنهم حزب الله جل جلاله، وكل من عداهم أو كل من يخالفهم في الرأي السياسي أو الديني هم حزب الشيطان، الذي يجب قتاله وقتالهم وقتلهم.. سمعت من الفلسطينيين من أهل غزة، أن عناصر حماس يتسابقون فيما بينهم على من يقتل عنصرًا  وقع تحت أيدهم من عناصر فتح، بقول: "اتركه لي أدخل به الجنة"!!..

كهذا إذن صار مصاصو الدماء والمرضى النفسيين ينفسون عن نوازعهم الإجرامية، وشهوتهم لسفك الدماء الإنسانية، تحت ستار تقوى عجيبة وشاذة، وصار قتل الإنسان والجار والزميل عملاً يتم به التقرب لله، لمجرد أن القاتل يدعي لنفسه أنه من جند الله، وكل من عداه أعداء لله!!
حرق كنائس الأقباط ومنازلهم ومتاجرهم وسرقة ممتلكاتهم، كلها تتم على أنغام صيحات تقوية ودينية، والسطو على محلات المصوغات وقتل أصحابها، لم يعد جريمة قتل وسرقة، بل هو استحلال شرعي في نظرهم لأرواح وأموال ونساء الكفار أعداء الله.. العصف بالبهائيين والتحريض على قتلهم وتقطيع أجسادهم، لم يعد بلطجة وإجرامًا، بل صار غيرة على الدين، فتطلق تلك الصيحات الإجرامية في قاعات المحاكم الموقرة، دون أن يخشى قائلها من وضعه في قفص الاتهام في التو واللحظة.. هكذا أيضًا نسمع تلك التحريضات الإجرامية في القنوات الفضائية المصرية، التي اخترعها وصنعها لنا الكفار أعداء الله، لكي يجلس مذيع يستنطق مجرمًا، بتحريضات تشتعل على أثرها الحرائق في قرى مصر، مستهدفة بسطاء من المصريين البهائيين، ليتم تشريدهم من منازلهم، ولا يملك البوليس لهم أكثر من ترحيلهم من موطنهم، نزولاً على إرادة المجرمين والبلطجية، الذين والحالة هذه قد صاروا هم الحكام الحقيقيين للشارع المصري، وصارت شريعة الغاب وليس الدستور هي ميثاق حياتنا!!

الإجرام والبلطجة موجودان بلاشك في جميع الدول ولدى كل الشعوب، لكنها تتستر وتتخفى، تنتهز فرصة لتنقض، ثم تعاود الكمون تحينًا لفرصة أخرى، أما حين يرتدي الإجرام ثيابًا مقدسة، فهو يستشري ويتمدد.. يصير مهنة من لا مهنة له، وتسلية الأطفال والغوغاء، الذين يجدون فيه فرصة لتفريغ الكبت والقهر الذي يعيشون في ظله.. هي نزهة مسلية بلاشك لأصحاب النفوس الضعيفة، التي تجد في ممارسة الإجرام على المسالمين العزل فرصة ذهبية، يروحون بها عن أنفسهم، ناهيك عن اقتناعهم بما يقال لهم، عن نوال الأجر والثواب على ذلك في جنات الخلد.

ظاهرة قيام الصغار وربما الكبار أيضًا، برش مياه النار على ملابس النساء غير المحجبات في الشوارع والأسواق، وهي الظاهرة التي صارت منتشرة في أنحاء المدن المصرية.. أطفال أبرياء يتم تربيتهم على الإجرام، بدلاً من تهذيبهم وتعليمهم الموسيقى والفنون.. يتم تلقينهم أن الإجرام يرضي الله، وينالون عنه أجرًا في الدنيا والآخرة، ولنا هنا أن نتخيل مستقبل مثل هؤلاء، ونتخيل أيضًا مستقبل شعب يربي أبناءه على تقديس البلطجة والإجرام!!

على ذات المنوال نرى ما يحدث مع الشباب الذي يهوى موسيقى الميتال، باتهامهم بعبادة الشيطان.. بل وسمعت أخيرًا في برنامج توك شو في قناة فضائية مصرية، من يطالب بعزل هؤلاء الشباب كما يعزل مرضى الجزام، والعجيب أن الشابين المتهمين أمام المذيع وصاحبة الذي يحكم على الناس بالمرض وبالتبعية للشيطان، هذان الشابان كانا مهذبين وحليمين، ولم يقوما بالرد المناسب على البلطجي الذي يستحل إصدار أحكام إجرامية، على شباب كل جريمته أنه يهوى موسيقى صاخبة بعض الشيء، في حين لا يوجه أي اتهام لمن يقومون بالتخريب والقتل الفعلي لمواطنيهم، مثل ذلك الإمام في مسجد مرسى مطروح وغيره كثيرون، سواء داخل بيوت الله، أو في كافة وسائل الإعلام المسماة قومية، بل وتفتح الفضائيات والنايل سات أحضانهم ليقدم فيها المحرضون على القتل والكراهية كل بضاعتهم الخطيرة الكريهة، وتطبع لهم شرائط كاسيت وسي دي، لتذاع طوال اليوم في سيارات الميكروباص والتاكسي، ولا يجدون من يقترح عزلهم في مستعمرة لمرضى الجذام الفكري والنفسي.

لا يتسع المجال هنا لتعداد أمثلة تفشي الإجرام الملتحف بعباءات وشعارات مقدسة، تلك القداسة التي تجعل أجهزة الدولة تجبن عن مواجهتها بالقوة اللازمة، وتجعل أنصار الأخلاق والمدنية والحضارة مترددين متهيبين من إدانتها، كما تجعلهم محط الاتهام بالكفر والعداء للدين، إذا ما أقدموا على ما تمليه عليهم ضمائرهم، من محاربة الإجرام والبلطجة باسم الإله.
هل يستطيع شعبنا ودولتنا الوقوف في وجه هؤلاء الذين يمارسون البلطجة باسم الإله؟
هل يستطيعون تعريتهم من أرديتهم المقدسة الزائفة، ليظهروا أمام الجميع على طبيعتهم وحقيقتهم الإجرامية؟