بقلم: مادلين نادر
نحتفل في 9 مارس من كل عام بعيد نياحة قداسة البابا كيرلس السادس، بابا الأسكندرية، وبطريرك الكرازة المرقسية الـ 116.. وبالرغم من مرور 39 عامًا على نياحته، إلا أنه يعيش في ذاكرة المسيحين في مصر والعالم أجمع، ولا تزال هناك العديد من المعجزات تتم بشفاعته، فبالرغم من نياحته، ولكنه وإن مات يتكلم بعد.
البابا كيرلس "عازر"، وُلد ببلدة طوخ النصارى، بدمنهور بمحافظة البحيرة، يوم 2 اغسطس سنة 1902، وكان والده يوسف عطا محبًا للكنيسة وناسخ كتبها ومنقحها المتفاني في خدمة الكنيسة الأرثوذكسية، وكان حريصًا على حِفظ تراثها.
كان عازر ترتيبه الثاني بين إخوته حنا وميخائيل.. وبعد أن حصل عازر على "البكالوريا"- الثانوية- عمل في شركة "كوكس" للملاحة عام 1921، فكان مثالاً للأمانة والإخلاص، ولم يعطله عمله عن دراسة الكتب المقدسة والطقسية والتفاسير والقوانين الكنسيّة تحت إرشاد بعض الكهنة الغيورين.. وظل هكذا يعمل ويجاهد في حياة نسكية كاملة، فعاش راهبًا زاهدًا في بيته وفي عمله دون أن يشعر به أحد، فكان ينام على الأرض بجوار فراشه ويترك طعامه مكتفيًا بكسرة صغيرة وقليلاً من الملح.. وقدم استقالته في عام 1927.
* انطلاقه للبرية:
اشتاقت نفسه التواقة للعشرة الإلهية الدائمة؛ للانطلاق إلى الصحراء والتواجد فيها، وبالرغم من مقاومة أخيه الأكبر، فقد ساعده الأنبا يوأنس البطريرك ال113، وطلب قبوله في سلك الرهبنة في دير البرموس بوادي النطرون، بعد أن قدم استقالته من العمل في يوليو سنة 1927 (تلك التي صدمت صاحب الشركة الذي حاول استبقاءه برفع مرتبه إغراءًا منه، ولكن عازر كان قد وضع يده على المحراث ولم يحاول أن ينظر الى الوراء). فأوفد البابا معه راهبًا فاضلاً؛ وهو القس بشارة البراموسي (الأنبا مرقس مطران أبو تيج)، فاصطحبه إلى الدير..
تتلمذ "عازر" على يد الأبوين الروحيين القمص عبد المسيح صليب والقمص يعقوب الصامت، أولئك اللذين كان الدير عامرًا بهم في ذلك الوقت، وعكف على حياة الصلاة والنسك.. ولم تمضِ سنة واحدة على مدة الاختبار حتى تمت رسامته راهبًا في كنيسة السيدة العذراء في الدير، فكان ساجدًا أمام الهيكل وعن يمينه جسد الأنبا موسى الأسود، وعن يساره جسد القديس إيسيذوروس.. ودُعي بالراهب مينا، وذلك في السبت 17 أمشير سنة 1644 الموافق 25 فبراير سنة 1928.. وسمع هذا الدعاء من فم معلمه القمص يعقوب الصامت قائلاً "سِر على بركة الله بهذا الروح الوديع الهادىء، وهذا التواضع والانسحاق، وسيقيمك الله أمينًا على أسراره المقدسة، وروحه القدوس يرشدك ويعلمك".
ثم التحق بعد ذلك بالمدرسة اللاهوتية، ورسمه الأنبا يوأنس قسًا في يوليو سنة 1931، وهكذا أهله الله أن يقف أمامه على مذبحه المقدس لأول مرة في كنيسة أولاد الملوك مكسيموس ودوماديوس بالدير، كل ذلك قبل أن يتم ثلاث سنوات في الدير.. فكان قلبه الملتهب حبًا لخالقه يزداد التهابًا يومًا بعد يوم، لا سيما بعد رسامته وحمله الأسرار الإلهية بين يديه.
* توحده:
اشتاقت نفسه إلى الانفراد في البرية والتوحد فيها، فقصد مغارة القمص صرابامون المتوحد الذي عاصره مدة وجيزة متتلمذًا على يديه، فكان نعم الخادم الأمين.. ثم توجه إلى الأنبا يوأنس البطريرك، وطلب منه السماح له بالتوحد في الدير الأبيض وتعميره إن أمكن، وفعلا مضى إلى هناك وقضى فيه فترة قصيرة، ثم أقام فترة من الوقت في مغارة القمص عبد المسيح الحبشي، فكان يحمل على كتفه صفيحة الماء و"كوز" العدس إسبوعيًا من دير البرموس إلى مغارته العميقة في الصحراء، حتى تركت علامة في كتفه إلى يوم نياحته.
زاره البطريرك الأنبا يوأنس عام 1934، وأعجب بعلمه وروحانيته وغيرته، وشهد بتقواه مؤملاً خيرًا كبيرًا للكنيسة على يديه.. منقول من موقع الأنبا تكلا.
*دفاعه عن الحق:
حدث أن غضب رئيس الدير على سبعة من الرهبان وأمر بطردهم، فلما بلغ الراهب المتوحد هذا الأمر، أسرع إليه مستنكرًا ما حدث منه، ثم خرج مع المطرودين وتطوع لخدمتهم وتخفيف ألمهم النفسي، ثم توجه معهم إلى المقر البابوي، وعندما استطلع البابا يوأنس البطريرك الأمر، أمر بعودتهم إلى ديرهم وأثنى على القديس المتوحد.
إلا أن قديسنا استأذن غبطته في أمر إعادة تعمير دير مارمينا القديم بصحراء مريوط، ولكن إذ لم يحصل على الموافقة، توجه إلى جبل المقطم في مصر القديمة - الذي نقل بقوة الصوم والصلاة - واستأجر هناك طاحونة من الحكومة مقابل ستة قروش سنويًا، وأقام فيها مستمتعًا بعشرة إلهية قوية، وذلك في الثلاثاء الموافق 23 يونيو عام 1936.. حقا لقد أحب القديس سكنى الجبال كما أحبها آباؤه القديسين من قبل، الذين وصفهم الكتاب المقدس بأن "العالم لم يكن مستحقا لهم لأنهم عاشوا تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض" (عب 38:11).. "لعظم محبتهم في الملك المسيح" (القداس الإلهي).
وهناك انصهرت حياته من كثرة الصوم والصلاة والسهر حتى تحولت إلى منار، ثم إلى مزار، بعد أن فاحت رائحة المسيح الزكية منه، وتم القول الإلهي لا يمكن أن تخفى مدينة كائنة على جبل.
* تعلقه بالشهيد مارمينا:
كما هو معروف عن قديسنا الحبيب، أنه كثير التعلق بشفيعه مارمينا، فلقد حاول أن ينفرد في بريته بصحراء مريوط ولم يتسنَ له، فصمم على بناء ولو كنيسة صغيرة باسم شفيعه "العجايبي" يعيش فيها إلى أن يكمل غربته بسلام، وبالفعل قد أعانه الرب، وهناك في مصر القديمة من المنح والهبات والهدايا المتواضعة التي كان يتلقاها من أفراد الشعب الذين عرفوا طريقه والذين كانوا يقصدونه طالبين الصلاة للشفاء من العلل وغيرها، واستطاع ببركة ربنا يسوع أن يبني له "قلاية" وكنيسة باسم حبيبه "مارمينا"، وذلك عام 1949.. ثم توسع في البناء، فأقام دارًا للضيافة كان يستقبل فيها الشباب الجامعي المغترب ليقيم فيها مقابل قروش زهيدة.. حتى خرج الكثيرون من هذا المكان المتواضع ليسوا حاملين للشهادات العلمية من جامعاتهم، ولكن فوق ذلك كله رهبانًا أتقياء، تدربوا على حياة الفضيلة والزهد وحياة الصلاة الدائمة والسهر، حيث كانوا يشاهدون معلمهم يستيقظ كل يوم مع منتصف الليل ليبدأ الصلاة وقراءة فصول الكتاب على ضوء مصباح صغير داخل حجرته المتواضعة.. وقبل أن يطرق الفجر أبوابه، اعتاد أن يغادر صومعته ويتجه نحو فرن الكنيسة ومن دقيق النذور يبدأ عمل القربان، ويشمر عن ساعديه ويعجن العجين، ثم يقطعه أحجامًا متساوية ويختمه ويضعه في فرن هادئ، ويظل يعمل ويتلوا المزامير حتى يفرغ منه وعرقه يتصبب، ثم يتوجه إلى الكنيسة ليتلوا صلوات التسبحة، ثم يقدس الأسرار الإلهية، ويعود إلى مكتبته وقلايته وخدمته.
فكانت حاجاته وحاجات الذين معه تخدمها يداه الطاهرتان، يغسل ثيابه لنفسه ويطبخ ويخدم الجميع.. على أن حجرته هذه باقية كما هي للآن: السرير البسيط، المكتبة، الملابس الخشنة التي كان يرتديها، كل شئ كما هو من قبل رسامته وإلى الآن.
* اختياره للباباوية:
إن اختيار قداسة البابا لم يكن بعمل إنسان، ولكن المختار من الله لكنيستنا القبطية، وقصة تبوأه كرسيه الرسولي تدعو إلى العجب وإلى تمجيد اسم الرب يسوع الذي يُنزل الأعزاء عن الكراسي ويرفع المتضعين.
كان ترتيبه بين المرشحين السادس، وكان على لجنة الترشيح حسب لائحة السبت 2 نوڤمبر 1957 أن تقدم الرهبان الخمسة المرشحين الأوائل للشعب، وفي اللحظة الأخيرة للتقدم بالخمسة الأوائل، أجمع الرأي على تنحي الخامس، وتقدم السادس ليصبح الخامس. ثم أجريت عملية الاختيار للشعب لثلاثة منهم، فكان آخرهم ترتيبًا في أصوات المنتخبين، وبقى إجراء القرعة الهيكلية في الأحد 19 إبريل 1959.. ودقت أجراس الكنائس معلنة فرحة السماء، وأتوا بالقمص مينا البراموسي المتوحد ليكون البابا كيرلس السادس، بابا الأسكندرية المائة والسادس عشر من خلفاء مار مرقس الرسول.
* من أبرز أعماله:
- قام قداسة البابا كيرلس بتجديد الكاتدرائية المرقسية القديمة، وتشييد الكاتدرائية المرقسية الجديدة.
- استعادات الكنيسة أيضًا في عصر البابا جسد القديس مرقس الرسول.
- بناء دير مارمينا.
- عمل الميرون المقدس.
- التقى البابا بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر عدة لقاءات بدأت منذ عام 1959.
- قام البابا بتشييد العديد من كنائس المهجر منها: كنيسة في تورنتو بكندا عام 1946 – وكنيسة بمونتريال بكندا عام 1967 – وكنيسة بسيدنى بأستراليا عام 1969 – وكنيسة ملبورن بأستراليا عام 1970 – وأخيرًا كنيسة كاليفورنيا في عام 1970.
* من أقوال البابا كيرلس:
* لا تبطل عملاً من الأعمال الصالحة لأجل كلام الناس ولا تعمل عملاً لأجل مديح الناس.
* ليكن عندك روح التسامح ويجب عليك أن تسامح من أساء إليك وتذهب أنت لمصالحته ولا تنتظر حتى يأتي إليك هو.
* لا يوجد شيء تحت السماء يقدر أن يكدرني أو يزعجني لأني محتمٍ في ذلك الحصن الحصين داخل الملجأ الأمين مطمئن في أحضان المراحم، حائز على ينبوع التعزية.
* قف في القداس بخشوع، ولا تنظر إلى الأصوات وتلذذ سمعك فقط، بل ضع في نفسك أنك واقف أمام الله وهو منتظر لتطلب منه النعم والبركات لكي يهبها لك مجانا.
* كن مطمئنا جدًا جدًا ولا تفكر في الأمر كثيرًا، بل دع الأمر لمن بيده الأمر.
* خلاص الأبرار عند الرب وهو ناصرهم في زمن الشدائد.
* يسوع المسيح يمد يد الشفاء ويشفي أمراضكم ويقويكم.
* أيها الأخ الحبيب، أول شيء مهم، تحفظ من الغضب لانك في حالة الغضب تتكلم كلامًا قاسيًا، وهذا يعد حربًا من عدو الخير بواسطته (الغضب) يريد أن يفقد السلام في الإنسان.. ويبعد عنه النعمة.
* نياحته:
فى الأسبوع الأول من مارس 1971م، أصيب البابا بالإنفلونزا، وكان يستقبل أولاده، ومباشرة كل مهام الكنيسة وحل مشاكلها، وكان كل ما كان يقوله جملتين هما.. "الرب يرعاكم" .. و.. "الرب يدبر أموركم"..
يوم الأحد 7 مارس 1971م، أقام صلاة القداس الإلهى، رغم طلب الأطباء بعدم الحركة حتى يتم الشفاء كاملاً وقد استقبل أولاده وباركهم.
في يوم الإثنين 8 مارس 1971م، قام قداسة البابا كيرلس بالاتصال تلفونيًا بالسيد صلاح الشاهد الأمين الأول برئاسة الجمهورية لتحديد موعد مع الرئيس السادات لتأكيد تأييد الكنيسة القبطية له في موقف الرئيس تجاه العدوان الإسرائيلى ولكن شكر السادات البابا لمشاعره وترجاه إرجاء الزيارة حتى تتحسن صحته، ولما لم يكن له قوه في المشاركة أرسل برقية للسادات قال فيها: "سيخلد التاريخ لسيادتكم في أنصع صفحاته دوركم العظيم في الحفاظ على السلام في الشرق الأوسط، ولكن إصرار العدو على التوسع، أغلق الأبواب في وجه محاولات السلام، ولم يكن أمامكم إلا الطريق المشروع"..
أما آخر كلمات البابا كيرلس السادس كانت: "الرب يدبر أموركم"، وأسلم روحه الطاهرة في تمام الساعة العاشرة وأربعين دقيقة من صباح 9 مارس 1971م.. وقد توقفت ساعة البابا كيرلس الخاصة عند لحظة انتقاله إلى السماء, وهي معروضه في مزاره الخاص بدير مار مينا بمريوط.