بقلم : أنطوني ولسن / أستراليا
الأعلامي الجريء الأستاذ يوسف الحسيني يتميز عن كثيرين من الأعلاميين والصحفيين والكتاب ببساطة التعبير الصادق الذي يتناول فيه مشاكل أم الدنيا مصر.
طريقته في إخراج الكلام من قلبه إلى لسانه ليستمع إليه المستمع أو المشاهد لا تكلف ولا صوت عالٍ في حديثه ولا تعالي . لذا ينصت المشاهد أو المستمع إليه بكل أذان صاغية مهما كان العداء لدي المشاهد أو المستمع للأعلامي يوسف الحسيني .
شاءت الصدفة وحدها أن أشاهد برنامجه " السادة المحترمون " الذي يبث على قناة أون تي في . لأننا في أستراليا لا نستطيع متابعة كل ما يقدم بالقنوات الفضائية على الرغم أن قناة أون تي في توضح توقيت البث في أستراليا ، وهذه ميزة تضاف إلى ميزات كثيرة تميزت بها هذه القناة . نتمنى إذا أمكن إضافة إلى وقت البث المباشر إظهار وقت الإعادة الذي ربما يتوافق مع التوقيت في أستراليا .
أعود إلى الأستاذ يوسف الحسيني الذي أبكاني ، ولماذا أبكاني !.
أبكاني لأنه أعاد ذكريات الزمن الجميل الذي عاشته مصر وعايشه شباب ورجال مصر . أما لماذا أبكاني !. فهذا سأتطرق إليه فيما بعد .
عندما أمسك الأستاذ يوسف الحسيني " بزعفة النخل المضفورة " ، في نفس اللحظة عادت الذاكرة وعدتُ إلى أيام الثانوي من أول عام 1951 ونحن في سنة أولى ثانوي بمدرسة " الأمير فاروق الثانوية " بالترعة البولاقية بشبرا .
لن أتحدث عن فترة الدراسة الأبتدائية مهما حدث فيها فقد أكملته فترة الدراسة الثانوية التي تعتبر بداية التعلم العام الشامل من مواد دراسية إلى المشاركة الفعلية فيما كان يحدث على أرض الواقع في تلك الأيام .
في أول يوم دراسي لنا وجدت نفسي في أخر الصف ويجلس إلى جواري محمد عبد الله الخولي كما كان يجلس في الصفوف الأخيرة طوال القامة مثلنا . لم نلتقي من قبل أثناء الدراسة الأبتدائية فكل منا كان في مدرسة مختلفة . لكن لم يشعر أيّ منا بالغربة كعهدنا في ذلك الزمن الجميل في مصر .
خلال الدراسة الثانوية حتى الثقافة " سنه رابعة ثانوي " ومحمد عبد الله الخولي هو زميل الصف الأخير في الفصل .
كان من الطبيعي أن تنشأ بيننا علاقات عائلية هو والمرحوم ناحوم والمرحوم أحمد فؤاد .
ذات يوم كنت في حجرة المرحوم محمد عبدالله الخولي الذي تركني وصعد إلى الطابق الثاني دون أن تراه المرحومة والدته التي ظنت أننا خرجنا . سمعتها تتحدث إلى المرحوم عم عبدالله الخولي إمام مسجد الحي عن علاقتنا محمد وأنا " النصراني " وتخوفها من تلك العلاقة . وإذ بي أسمع ما لم أكن أعرف عن المسيحيين " النصاره " في الأسلام . دهشتي لم يكن سببها أن مسلما وإماما للمسجد يخبر أم أولاده عن " النصاره " ويؤكد لها أن إبنها محمد وأنا إخوة في الوطن مصر .
كنا ندرس الدين الإسلامي كمادة أساسية . ملكت الحفظ الصم عندي ممحية . مستمع جيد ، متفهم لما أسمع جيد أيضا لكن لا أستطيع أن أعيد نفس ما سمعت أو قرأت . فكان المرحوم محمد عندما أقف " لأتكلم دون قرأة " سواء آيات قرأنية أو أبيات شعر فإذا توقفت كان يسرع ويلقنيّ بصوت خافت أول الآية أو القصيدة .
بدأت عائلاتنا تتزاور ولم يتحدث أحد من أفراد عائلة كل واحد منا عن تلك العلاقة التي جمعتنا بهذا الحب والأحترام والتزاور بيننا . لا أحد يتكلم في الدين ، ولا أحد يحاول أن يستميل الآخر إلى ما يعبد أو يعتقد . ولم تحاول أي أسرة منع أحدنا من المشاركة في الأحتفال بأعياد الآخر إن كان مسلما أو مسيحيا . في رمضان يدعونا إخوتنا المسلمين " عائلاتهم " للأفطار معهم على الأقل أكثر من مرة في بيت كل منهم . وفي الأعياد المسيحية مثل هذه الأيام والأحتفال بعيد القيامة ، كان إخوتنا المسلمين يشاركوننا في أحد " الشعانين " " حد الزعف " يقضون معنا الليل لتضفير " الزعف " في فرحة وسرور . ولم يدخل أي منا في مناظرة كلامية أو حتى بالإشارة أو التلميح أن ما يؤمن به أفضل مما يؤمن به الآخر . لقد كانت مصر تعيش حقا في أجمل وأزهى أيامها وتطبق أجمل جملة في اللغة العربية " الدين لله والوطن للجميع " .
واستمرينا على هذا الحال حتى بعد أن أنهينا دراستنا الثانوية والتحقنا بالجامعة ، بل وفي يوم زواجي بالكنيسة كانت تجلس إلى جوار المرحومة أمي المرحومة أم محمد " أم على لأن محمد أصغر أبنائها " . حدث أن بعضا من الحاضرين لم يأخذ " علبة ملبس " فتوجهوا إلى أمي وسألها أحدهم " حضرتك مش الست أم العريس ؟ " .
. إبتسمت أمي لهم وأشارت إلى خالتي أم محمد وقالت لهم " هذه أم العريس " توجهوا إليها واشتكوا لها فضربت على صدرها وقالت " والنبي !. " فاستغرب الناس وقالوا لها " مش حضرتك أم العريس !. " أجابت نعم بس أصلي معاشرة المسلمين وضحكت وذهبت وأحضرت لهم طلباتهم .
فهل في مصر الأن توجد إمرأة مثل أمي وخالتي أم محمد ؟!. أخشي أن أقول لا..
أترك خالتي أم محمد وأمي وأذهب بك أستاذ يوسف الحسين إلى قنا . قنا التي هاجت وكسرت الدنيا إحتجاجا على تعين محافظ نصراني للمحافظة ولم تفلح تدخلات رجال الدين " شيء مستغرب بالنسبة للحكم " ، ولم تهدأ قنا حتى تم حذف إسم المحافظ النصراني من قائمة المحافظين . بعدها عادت الحياة إلى قنا وأسفاه .
شاءت الأقدار في منتصف الخمسينات من القرن الماضي أن مدير عام مصلحة الأحوال المدنية أراد تأديبي لأنني تحديت رئيس قسم السكرتارية عندما مر على الحجرة التي كنت أترأس عدد 15 موظفا ، وكان من الطبيعي جدا إنارة اللمبات الكهربائية . لكن المفاجئة أن رئيس السكرتارية أطفأ النور وأدار ظهره ومشى . قمت وأضأت النور وبالطبع كنت أظن أنه مشى الى حال سبيله لكنه دخل الغرفة وكأنه كان متوقعا مني هذا التصرف وأعاد إطفاء الكهرباء . فأعدت الإضاءة مرة أخرى . تحداني قائلا أن الأدارة تطالب بالأقتصاد . فقلت له وهذا ما نفعله أقتصد بصر الزملاء بدل من فقدان النظر في 5 سنوات يفقدونه في 15 سنة. عاد وقال لي عبد الناصر يطالب بالأقتصاد . فجاء ردي متحديا إياه وقلت له بدلا من أن تتكلم عن الأقتصاد في إضاءة الحجرة ، إذهب وقل لسيادة المدير أن لا يرسل سيارات الشرطة لشراء إحتياجات زوجات الضباط أو توصيل أولادهم إلى المدارس .
مرت ثلاثة أيام وإذ بالأركان حرب يرسل في طلبي . وكانت المفاجئة الحقيقية أن سعادة المدير العام قد أصدر قرارا بنقلي إلى قنا . لن أطيل فقد حدثت مشادة كلامية بين المدير العام والعقيد حامد المملوك رئيسي المباشر إنتهت بإعطاء المدير العام أمرا عسكريا بالأنصراف . بعد ما علمت بما حدث طلبت مقابلة المدير العام الذي سمح لي واستقبلني هاشا باشا وأخبرني بأنه أصدر هذا القرار لثقته فيّ لأصلاح الأمر بمكتب بطاقات مركز قنا . عندما أخبرته أنني طالب بمدرسة الخدمة الأجتماعية والدراسة بها مسائية فكان من الأفضل أن ترسلين لفترة محددة وليس نقلا لأعود وأكمل دراستي . فأقسم لي بشرفه بعودتي بعد 3 أشهر . وزاد في الحديث بإعطائي تذكرت السفر درجة أولى و " خذ الوقت اللي انت عايزة ولن يحسب لك من الأجازات المرضية أو ما شابه " .
هذه قنا التي سافرت إليها على أمل العودة بعد 3 أشهر فإذ بي أقضي ما يقرب من 4 سنوات لولا تدخل سيادة وكيل المصلحة ومنح أحد الموظفين الجدد درجة لو قبل ووقع قبوله بالتبادل . وبالفعل عدت إلى مكاني وكما كنت . لكني خسرت دراستي التي ضحيت بكلية الحقوق جامعة القاهرة لحبي لدراسة الخدمة الأجتماعية . ومع ذلك تلك الفترة التي قضيتها في قنا تعلمت فيها ما لم يكن في أي جامعة . أحببت أهل قنا ووجدت في أحد العمد " مع الأسف نسيت إسمه " على الرغم من حبي له فقد كان إنسكلوبيديا متحركة ورجل علم ومن عائلة محترمة . تعلمت منه الكثير ومن أهالي قنا معنى المحبة والأحترام إن كان على مستوى العمل أو الحياة العامة التي قضيتها في قنا ولم أسمع كلمة نصراني أو مسيحي في أي قرية ذهبت إليها أو أي مركز من مراكز قنا " دشنا ، نجع حمادي " و غيرهما وخاصة الأقصر الجميلة. الحديث عن مصر والشعب المصري في ذلك الزمن الجميل له طعم ومذاق خاص لا يمكن أن ينمحي من ذاكرة أي مصري حقيقي دمه من نيل مصر وروحه من روح مصر وجسده أينما وراه التراب فهو جسد حر ولا مكان للعبودية فيه .
أما عن لماذا أستاذ يوسف الحسيني أبكيتني أقول لك لماذا ..
زرت مصر في يناير من العام 1976 وكانت الزيارة قصيرة لكن من المطار إستقليت تاكسي مع شقيقتي وشقيقة زوجتي اللتان كانتا في إستقبالي . من الطبيعي أسئلة كثيرة حول أستراليا والحياة في أستراليا وزوجتي والأولاد الخ من أسئلة . وكان من الطبيعي أتحدث معهما باللغة العربية . سألتني شقيقتي ما هو الشيء الذي تتمنى أن تشربه هنا أو تأكله ولك إشتياق لهما . كان ردي أشرب عصير قصب وأكل حمام محشي .
بعد دقائق إذ بالسائق يتوقف أمام محل عصير قصب ويعود وبيده 4 أكواب من عصير القصب . شكرته وهممت على إعطائه ثمن العصير . ضحك بإبتسامة هادئة وقال ليّ :
** أنا أعمل في المطار رايح جاي . يعني أخد ركاب من المطار ، أو العكس . لاحظت أنك لم تنطق بلفظ واحد بلغة البلد التي هاجرت إليها " أستراليا " وأعتقد أن لغتهم الإنجليزية ، بل كان حديثك باللهجة المصرية المحببة إلينا .
شكرته ووضعت في بالي أن أدفع له عندما نصل إلى بيت شقيقتي . إستمريت في الكلام وتدخل هو بأسئلة عن أستراليا وخلافه حتى وصلنا إلى المنزل .
حمل الحقائب وصعد بها إلى الدور الثالث وأنا في إنتظاره . عندما عاد مددت يدي وأعطيته الأجر مضافا إليه أتعابه الشخصية . فإذ به يعيد لي أتعابه ويتأسف إن الناكسي ليس ملكه وإلا كان رفض الأجر . حياني بكل محبة وإحتضني متمنيا لي وقتا سعيدا في وطني مصر .
بعد عشرون سنة من الهجرة قررت زيارة مصر هذه المرة مع زوجتي وإبني وزوجته الأجنبية وإبنتي وإبنتها الطفلة ذات 5 سنوات. صُدمت ونحن نسير في شوارع القاهرة من هذا الكم الهائل من " الزبالة والزحام " . سائق التاكسي يختلف إختلافا جذريا عن سائق عام 1976 . الزحام وعدد الناس زاد من أوجاعي لأني مقتنع أن مصر لن تتحمل هذا العدد من البشر . لن أطيل عليك يا أستاذ يوسف الحسيني فقد أصبت بالكآبة والحزن وكان صوت الفنانة شادية هو المعزي وأنا أردد أغنيتها " يا حبيبتي يامصر " والدموع تنسال من عيني . لم أشعر بالراحة النفسية فذهبنا إلى أسوان وهناك ركبنا تاكسي وطلبت منه أن يأخذنا إلى أقرب " لوكاندة " لكنه أخذنا بعد أن إستأذن مني أن يرينا السد العالي والمنظر الجميل هناك . ضحكت إلتفت إلي وسألني لماذا تضحك . قلت له لأنني أثناء بناء السد العالي دخلت داخل السد محمولا على " نقالة " لأنني كنت مع مجموعة من مصلحة الأحوال المدنية في طريقنا إلى بلاد النوبة لأعدادهم للتهجيروأصابني برد مفاجيء .كان رده .. تحب نروح اللوكاندة . كان ردي لا ألولاد وزوجتي لم يروا السد وجمال السد وخاصة الأن بعد إستكمال بحيرة ناصر .
لن أطيل عليك وأنقلك إلى يوم عودتنا للذهاب إلى الأقصر بعد أن إتفقت مع نفس السائق أن يأخذنا أيضا إلى المطار . في اليوم التاني المحدد للسفر إنتظرته فلم يأتي فأخذت تاكسي آخر وطلبت المسئول في اللوكاندة أن يخبره إنني إضطريت للذهاب إلى المطار .
بعد الأنتهاء من إجراءات السفر وقبل أن ندخل إلى صالة الأنتظار إذ بهذا السائق يأتي لاهثا معتذرا قائلا ليّ لا يمكن أن لا أودعك وأسرتك متمنيا لكم إقامة جميلة في الأقصر وفي مصر . أخذني بالحضن مقبلا ومودعا الأسرة كلها .
وهكذا أبكيتني يا أستاذ يوسف الحسيني بحديثك وتمنياتك لكل مصري في الخارج أن يعود إلى مصر فمصر بخير . لأنني لن أستطيع العودة لظروفي الصحية التي منعتني من السفر إلى أي مكان منذ فترة طويلة .
كل عام وأنتم يا كل المصريين بخير وسلام ومحبة داعيا إلى الله القدير أن يحفظ بلدنا مصر .. و بلادنا مصر وأستراليا والعالم من شر الشرير .