بقلم: مهندس عزمي إبراهيم
لا يختلف العاقلون على أن "فلسفة السماء" هي فلسفة السلام والعدل والرحمة والمحبة والحكمة وإعمال العقل لصالح البشرية. وأنها لا تتبنى أو تحتضن أو تزكي البغضاء والظلم والإرهاب والترعيب والتخريب والحرق والهدم والقتل والسحل وخطف القاصرات وهتك الأعراض. ومن يختلف في ذلك المُعتَقـد مرتكزاً على آيةٍ من دين أو مبدأٍ طائفي أو هدف سياسي فهو إما مريض نفسياً واجتماعياً أو جاهل أو مغرض أو كافـر بالسماء.. أي كافـر باللـَـه.
فما هي "الحقيقة الجوهرية العُليـا" في "فلسفة السماء"؟
من يريد أن يدرك الحقيقة الجوهرية في أي أمرٍ لابد أن ينظر إلى مقوماتها ودعائمها وركائزها أولاً. فالصرح الشامخ مثلا، يبهرنا شموخه الظاهري، ولكن يبهرنا أكثر عندما ندرك صلابة أساساته وكفاءة مقوماته الهندسية وتوافق هيكله المعماري. كذلك الشمس، تبدو عظيمة في نظرنا نوراً وحرارة، لكنها تَعظـُم أكثر لمن يدرك تكوينها المادي والنووي والكيمائي والمغنطيسي وحجمها وموقعها في مدارها النجمي الدقيق ومدار الأقمار أو النجوم من حولها، أضف إلى ذلك فوائدها وتأثيرها الباهر على حياتنا كبشر وكطبيعة.
تطبيقاً لذلك، "الحقيقة الجوهرية العُليـا" لن ندركها إلا باستيعاب مقوماتها من مجموع الحقائـق الثوابت المؤسسة لها. وعندما نبحث عن "الحقيقة الجوهرية العليا" في الإيمان المسيحي نجده مَكنوزاً ومُركَّزاً في "قانـون الإيمـان" الذي لا يمكن لـ "مسيحي" أن يكون "مسيحياً" إلا بحفظة وترديده والإيمان بمحتواه. وهاهو نَصّه:
"بالحقيقة نؤمن بإلهٍ واحد، الله الآب، ضابط الكل، خالق السماء والأرض، ما يرى وما لا يرى. نؤمن بربٍ واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور. نورٌ من نورٍ، إلـَهٌ حقٌ من إلـَهٍ حق، مولودٌ غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، الذي به كان كل شيء. هذا الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء. تأنَّس وصُلِب عنا على عهد بيلاطس البنطي. تألم وقُبر وقامَ من بين الأموات في اليوم الثالث كما في الكتب، وصعد إلى السموات، وجلس عن يمين أبيه. وأيضًا يأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات، الذي ليس لملكه انقضاء. نعم نؤمن بالروح القدس، الرب المحيي المنبثق من الآب. نسجد له ونمجده مع الآب والابن، الناطق في الأنبياء، وبكنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية. ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا. وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي. آمين."
في قانون الإيمان نجد أساسيات الإيمان المسيحي صريحة واضحة، وعلى رأسها الإيمان بـ "إلـهٍ واحـد خالق السماء والأرض" لا ثلاثة آلهة كما يَدَّعي على المسيحية آخرون إما عن جهل أو بغرض التشويه. فالمسيحية تؤمن بإلـَه واحـد. إلـَه واحـد ذو ثلاثة أقانيم متساوين في الجوهر، متحدين في ذات اللـه الواحد، وهم الآب والإبن والروح القدس. والسيد المسيح، إلـَه تَجَسَّدَ فترةً بين البشر، ليخلص البشر من الخطيَّة العتيقة، لكن "لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عيـن".
وبما أن الإيمان المسيحي يتركز في "اللـَه الواحد". فلكي ندرك "اللـَه" في عليائـه، في ملكوتـه، على كرسي عرشه، بإدراكنا البشري المحدود، لا بد أن نسرد ونقيِّـم الحقائق التي تغلف السيد المسيـح، الإلـَه المتجسد، الذي عاش بين البشر.. فرأيناه ولمسناه وسمعناه:
1- وُلِـد السيد المسيح من عَـذراء، كما لم يُولَـد بَشَـر.
2- عـاش السيد المسيح بين النـاس صانعأ أعمالٍ ومعجزات ليست من قـدرات البشَـر "المخلوق"، بل من قدرات اللـه "الخالـق"، كعطاء الحياة بإقامة الميِّت.
3- عـاش السيد المسيح بين النـاس وديعاً رؤوفاً نقيـاً حكيماً عفيـفاً طاهـراً لم تُشِـنْهُ شائنـة. ولم تلوثـه ذرة من الخطـايا والشهوات التي تلوث "كـلَّ مخلوق بشَـر" على سطح البسيطة حتى الأنبياء.
4- بكامل إرادتـه.. صُلِـبَ السيد المسيح ومـاتَ بالجسـد على الصليب، ودُفِـنَ وقـام من المـوت في اليـوم الثالـث، كما لم يَقُم من المـوت بشَـر.
5- صعـد السيد المسيح إلى السمَوات، إلى عـرش مجـده، كما لم يَصعـد بَشَـر.
6- معالم حياةُ السيد المسيح على الأرض، ثم صَلبُه وموتُه بالجسد وقيامتُه وصُعودُه إلى السموات، كلها أحداث جاءت تحقيقاً لنبـوات عديدة صَدَرت بدقائقها تفصيلياً قبل حدوثها بآلاف السنين، مشيرة إليه كقدوس، لا كبشر.
8- وكما أنه في المسيحية، في "قانون الإيمان" سيأتي السيد المسيح في آخر الأيام "ليدين الأحياء والأموات وليس لملكه انقضاء"، ففي الإسلام أيضاً (صحيح البخاري، جزء 3، صفحة 107) جاء الحديث القائل "والذي نفسي بيده، لن تقوم الساعة حتى يأتى فيكم ابن مريم حَكَماً مُقسِطاً". أي حَكَماً عادلاً يُحاسِب ويُدين العالمين في اليوم الآخر، أي يوم البعث، يوم القيامة. وقد أقر صحة هذا الحديث وتفسيره إيجابياً عديدون من أئمة وعلماء ومفسري الفقه الإسلامي. ومن البديهي أن إدانة العالمين، أحياء وأموات، يوم القيامة سُلطة إلَهِيـة عالية لا تُعطَى لبشَـرٍ. كما أنه ليس من المعقول أن يُوكَّـل بشَـرٌ بإدانة البشَـر في اليوم الآخـر. بل ليس بين البشَـر من يَستحِقّ أن تُوَكَّـل إليه سُلطة إدانة البشَـر في اليوم الأخـر وهي سلطة الله ذاته.
تلك هي الحقائـق الثوابت. هي ركائـز الإيمان المسيحي، أو هي بعض منها، وهي معالم نور لو تبعنـاها بعقل متفتح ونفس رحبة ومنطق صحيح لتوصلنـا إلى إدراك الكيـان الأعظـم. هي دعائـمٌ رواسٍ لو قدرناها بإخلاص وبعقل مستنير لأدركنا عظمة الصِّـرح القـدسيّ. وكلها (وأكثر منها) ركائز مُوَثقة مُدَعَّمة ليس فقط بآيات وكتب ومقدسات دينيـة متباينة، بل بوقائع وشهود عيان ومستندات ومراجع ووثائق وحفريات ثوابت دَوَّنها مؤرخون وباحثون ومفسرون ومحققون علماء وحكماء باحثون ودارسون من جنسيات عالمية وبخلفيات علمية أكاديمية مستنيرة. هؤلاء أكدوا أن تلك الحقائق دعائمٌ رواسٍ متكاملة متطابقة ومتضامنة مكملة لبعضها البعض، تلك الحقائق لو وَزنّاها بميزان عـدلٍ وعقل متفتح دون تحيز، تقودنا إلى الحقيـقة الجوهريـة العُليـا وهي أن: يسوع المسيح هو اللـَه.
يسوع المسيح هو اللـه الواحِـد، ولا إلـَه سـواه.
والمسيحية هي العقيـدة السماوية النقيـة الصافية. لأنها العقيـدة التي أرساها الإلـَـه الحـق، الإلـَـه الذي له صفات الإلوهيّـة "الأبويَّـة" الحنونة المستحَقة من خالق لخليقته بلا استثناء. تلك الإلوهيّـة "الأبويَّـة" التي ليست لفصيل بشري بعينه، بل أبويّـة حَقَّـة تحتضن كلَّ البشر.. كلَّ مَن آمَـنَ به وحتى مَن لم يؤمِـن به.
فالمسيحية إذاً... هي عقيدة الحيـاة كما أرادها خالـق الحيـاة. أرساها على صفـات ذاتِـه، أي مُرسـاة على "فلسفة السماء" السمحة الحنون. لا على خطايا وشوائب بشرية أرضية:
على المحبة.. لا على البغضاء،
على السلام.. لا على سفك الدمـاء،
على الإنسانية.. لا على التسلط والاستعباد،
على التواضع.. لا على الاستعلاء والاستقواء،
على المودة والتعاطف.. لا على العنف والغلظة،
على النقاء والطهارة.. لا على الانغماس في الشهوات،
على الحق والعدل والإنصاف.. لا على الكذب والتحايل والظلم وقهر الضعيف،
على التسامح وقبول الآخر واحترام الآخر.. لا على التشـدد والتعصب والتطرف،
على التعايش مع الآخرين حتى لو اختلفوا عنا.. لا على الاستحواز والاستئثار والتهميش،
على الاقتناع وحرية الاختيار.. لا على الإكـراه أو الجزية أو القتـال أو التهجيـر أو التكفيـر،
على بث نـور الإيمان إلى النفوس والقلوب.. لا بالضغط والإرهـاب والغزوات وسفك الدماء،
على التعبد والصلاة في السرِّ قبل العَلن.. لا على التظاهر بالتقوى في الشوارع دون القلوب،
على العدل والمساواة بين الرجل والمرأة، وبين كل الناس.. لا على التسَيّد والعبودية والتمييز،
على الانفتاح والعلم والانتاج والتقدم.. لا على الانغلاق والتقوقع والتخلف والاكتفاء بالتشدق بالدين.
إيجازاً لما سَرَدت، كانت تعاليم السيد المسيح للبشر "جميعاُ" هي فلسفة السلام والعدل والرحمة والمحبة والحكمة وإعمال العقل لصالح البشرية. وإن لم تكن تلك هي "فلسفة السماء" (كما ذكرت في مقدمة مقالي) وكما أرادها رب السماء، فما هي السماء!!؟ ومن هو رب السماء!!؟
المسيحية هي عقيـدة الحيـاة الطيـِّـبة كما أرادها خالق الحيـاة. وعن بحث وتباحث ومقارنة واقتناع واختيار، هي ديني وعقيدتي وإيماني وفخـري. والمسيح هو إلهي.. الإلـَه الواحِـد. وأقول لمن يُكفـِّرني، عن جهل أو عن حقد، ما قاله صوت الـرب يسوع المسيح لشاول الطرسوسي المُتَعَنّت غليـظ القلب قبل أن تذوب غلظة قلبه ويؤمن ويصير بولس الرسول العظيم: "شاول شاول لماذا تضطهدني" ... "صعب عليك أن ترفس مناخِس".
ألليلـــــويا. اخريستوس أنيستي ... أليسوس أنيستي
المسيح قــام ... بالحقيـقة قــام.
تهنئة قلبية بعيد قيامة السيد المسيح للمسيحيين بالعالم، ولأبناء وطني جميعاً من أيّ دين، ومن كل دين ومِلـَّة ومذهب وعقيدة. وكل عام ومصر بخير واستقرار.
سلام للكل من ملك السلام.