صنع من طفولته البائسة حياة تملؤها البهجة، واستطاع على بساطته أن يواجه ويسخر من تناقضات المجتمع، واختزل عبر أعماله السينمائية التناقضات السياسية والاجتماعية التي عاشتها أوروبا في فترة ما بين الحربين العالمية الأولى والثانية.
فهو رائد السينما الصامتة و رجل أوروبا البائس والذي اشتهر بمناصرته لقضايا البؤساء والطبقة الكادحة وانتقاده اللاذع للمجتمع، ليكون واحدًا من أهم أبطال "الكوميديا السوداء" وليظل أحد أشهر نجوم الأفلام في العالم قبل نهاية الحرب العالمية الأولى.
إنه تشارلي تشابلن ببدلته وقبعته السوداء وبعكازه الشهير انتقل من حياة البؤس والفقر التي عانى منها في سنوات طفولته إلى عالم الأضواء والشهرة والثراء، لكنه ظل دائمًا وفيًا للقضايا الإنسانية من خلال 100 عمل سينمائي قدمها للإنسانية.
ساهمت طفولته البائسة ليكون أكثر تحيزًا لخدمة القضايا الإنسانية، وأكثر شعورًا بألم الآخرين، فلم يعرف الرفاهية في طفولته، ولد تشابلين يوم 16 أبريل 1889 في أحد الأحياء الفقيرة في لندن، كان والداه يعملان بقاعة موسيقى تقليدية، فوالده هو السيد تشارلز سبنسر تشابلين، وكان مغنيا وممثلا، أما والدته ليلي هارلي فكانت مغنية وممثلة، وانفصل والداه قبل أن يبلغ تشابلين سن الثالثة.
تعلم "تشابلن" الغناء من والديه وعاش مع أمه وأخيه في أحياء مختلفة، نظرًا لمعانتهم من الفقر الشديد، أما والده كان مدمن للكحول، بينما كانت علاقته مع ابنه سطحية.
بعدها نتيجة لمشاكل في الحنجرة اضطرت والدة تشابلين الانقطاع عن الغناء، وعانت من أحد الأمراض النفسية التي دخلت على أثرها إحدى المصحات.
فقامت عشيقة والده بإرساله إلى أحد الملاجئ ليتلقى الرعاية التي كان يفتقدها، وبعد فترة توفي والده جراء تشمع الكبد بينما كان تشابلن يبلغ من العمر 13 عاما، سنة 1901.
اعتلى تشارلي خشبة المسرح لأول مرة عندما كان في الخامسة من العمر حيث قام بالأداء في المسرح الموسيقى عام 1894 بدلا عن أمه.
وأثناء طفولته نتيجة لمرض خطير إصابة أضطر للبقاء في فراش المرض لأسابيع، وكانت والدته عندما يحل الليل تجلس بالقرب من النافذة وتمثل له ما يدور في الخارج، وربما هذا ما غذى موهبة التمثيل بداخله.
في عام 1900 حصل على دور كوميدي في مسرحية "سندريلا" الإيمائية، وفي عام 1903 شارك في العديد من الأعمال مثل "غراميات كوكيني"، ثم تلا ذلك أول وظيفة ثابته له في شخصية بيلي، الطفل بائع الصحف، في شارلوك هولمز والذي عمل فيه حتى عام 1906.
بعد ذلك عمل في استعراض "سيرك المحكمة" ليصبح مهرجا في شركة فرد كارنو الكوميدية بعد ذلك بعام.
واجهت تشابلن صعوبات البدايات المتمثلة في التأقلم مع أسلوب التمثيل في كيستون ولكنه سرعان ما تأقلم مع البيئة الجديدة وبدأ مشوار النجاح.
كان تشابلن من أكثر الشخصيات إبداعًا وتأثيرا في عصر الأفلام الصامتة، وكان متأثرا بسابقيه من الفنانين، مثل ماكس ليندر رائد الأفلام الصامتة الفرنسية، والذي أهدى له واحد من أفلامه، واستطاع شابلن بعبقرية فنية خارقة أن ينقل للجمهور بالحركة والصورة ما عجزت الأفلام الناطقة عن إيصاله، وظل متشبثًا حتى بعد ظهور الصوت بالسينما الصامتة لإيمانه أن هذا الاختراع يقتل السينما.
في بداية تشابلن الفنية كان يوظف الجسد لغايات كوميدية إضافة إلى الإيماءات المبالغ فيها، إذ أن إيماءاته بالغة الدهاء، حيث إنها ملائمة لمشاهد الرومنسية وأيضا المطاردات، ليرحب رواد السينما بهذا الكوميدي الجديد، بالرغم من نقده الحذر الذي تخطى الخطوط الحمراء".
قام تشابلن ببطولة 34 فيلمًا قصيرًا طوال سنته الأولى مع السينما، فضلا عن العرض التاريخي "رومانسية تيلي المثقوبة".
وقام بتطوير مواهبه في مجال السينما، بالإضافة والتعمق في شدة انفعالاته على المستوى الكوميدي.
قدم العديد من الأعمال من أشهرها والتي ظلت عالقة في تاريخ السينما "أضواء المدينة" سنة 1931 "حياة كلب"، و"الطفل " 1922و"الدكتاتور"1940، والتي فضح خلالها رجال الدين والسياسة والبوليس وأرباب العمل.
وعقدت شركة فيرست ناشينال، صفقة مع تشابلن بمليون دولار، وكان أول ممثل يحصل على مثل هذا المبلغ، وبعدها أسس شركة تشارلي تشابلن للأفلام، وهي شركة إنتاج خاصة به والتي جعلته رجلا ثريًا.
يعد تشابلن من أكثر الشخصيات المبدعة في عصر الأفلام الصامتة، وقد مثل وأخرج وكتب وانتج بعد فترة أفلامه الخاصة، وابتكر تشابلن شخصيته الرئيسية "الصعلوك" وكانت عبارة عن شخصية مشرد بطباع وكرامة رجل نبيل، يرتدي معطفا ضيقا وله شارب، وهو علامته المميزة، وبسبب تطوير تشابلن لشخصية الصعلوك التي اشتهر بها، ما جعله يطور من أدائه ليصبح له دور إخراجي وإبداعي وأصبح من أعلام مدينة كيستون الأمريكية.
" أطفال يتسابقون" هو عنوان الظهور الأول لشخصية الصعلوك، حينها بلغ من العمر الرابعة والعشرين، وأصبح تشابلن من خلال شخصية الصعلوك، وبسرعة أشهر نجوم كسيتون.
ليستمر في تمثيل هذا الدور في العشرات من الأفلام، حتى في بعض الأفلام الأطول لاحقا.
عرفت شخصية الصعلوك في فترة الأفلام الصامتة كشخصية عالمية، وعندما بدأت فترة الأفلام الناطقة، رفض تشابلن أن يجعل هذه الشخصية متحدثة.
وقال تشابلن في مذكراته عن شخصية الصعلوك:" لم أكن أملك أي فكرة بخصوص أي مكياج أضعه، لم أرد أن أظهر كصحفي في نشرة إخبارية كما هو الحال في فيلم لقمة عيش، لكن في طريقي لخزانة الملابس فكرت أن أرتدي سروالًا فضفاض، حذاء كبير، عكاز وقبعة، أردت أن يكون كل شيء متناقضًا: السروال الفضفاض، المعطف الضيق، القبعة الصغيرة والحذاء الكبير، وأضفت شنب صغيرًا، وذلك ليضفي على الشخصية الكبر في العمر دون إخفاء تعابيري، ولم تكن لي أي فكرة حول الشخصية، لكن في اللحظة التي ارتديت فيها الملابس وقمت بالماكياج أحسست بالشخصية، بدأت أتعرف عليها، وعندما دخلت ساحة التمثيل ولد الصعلوك".
ويضيف: "إن الصعلوك هو متشرد ذو أخلاق، ملابس وكرامة
رجل شهم، وظلت هذه الشخصية هي الأشهر لدى جماهير السينما".
لم يكن تشابلن مجرد "كبير" بل كان "عظيمًا" وبقي يمارس مهنته حتى بعد 25 سنة خلال فترة الكساد الكبير، وصعود أدولف هتلر، وكان لا يصدق أن شخصًا قادرًا في تلك الفترة على الترفيه عن نفوس الناس.
لذلك قال عنه جورج برنارد شو: "إنه العبقري الوحيد الذي خرج من الصناعة السينمائية".
شارك تشابلن سنة 1919 بصحبة ماري بيكفورد، دوغلاس فايربانكس ود.و غريفيث بإنشاء اتحاد الفنانين.
وفي عام 1976قبيل عيد ميلاده الـ 86 كرمته ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية بمنحه لقب "سير"، كما حصل على المرتبة الـ10 في ترتيب معهد الفيلم الأمريكي 100 عام و100 ممثل.
على الرغم من إقامته لفترة طويلة في الولايات المتحدة إلا أنه لم يحصل على الجنسية الأمريكية وفي بعض الأقوال أنه رفضها، وحين سافر للولايات المتحدة في عام 1952 رفضت السلطات الأمريكية منحه تأشيرة دخول إليها بسبب الشكوك التي كانت تحول حوله بصفته من الشيوعيين.
توفي شابلن سنة 1977 عن سن يناهز 88 عامًا، في مساء الرابع والعشرين من ديسمبر، حيث كان بمنزله في سويسرا مليئا بأبنائه واصدقائه، و تركهم ليأوي إلى فراشه تاركًا الباب مفتوحًا كي يشاركهم أفراحهم بعيد الميلاد وفي الصباح عندما ذهبوا ليهنئوه بالعيد كان شارلي شابلن قد غادر الحياة، بعد ثمان وثمانين سنة مفعمة بالعمل، والكفاح مانحا ملايين البشر السعادة خلال أكثر من ثمانين فيلمًا.
وكان تشيعة نسيج من الخيال فشيع بحضور أكثر من 20 رئيس دولة كجنازة رسمية، وحضر جنازته أكثر من 30 مليون شخص وهم يرفعون صوره وهم يبكون.
لتظل كلمته خالده بعد رحيله والتي وثقها في مذكراته "لست نادمًا لأنني مارست حياتي بحب وحاربت اليأس بالعطاء، لأن الله منحنا هبة الحياة وأمرنا أن نعمل ونتيح للآخرين سبيلًا ليعملوا، فهذه رسالة أي مبدع وإنسان يرفض أن تكون القوة سببًا في الأذى وفي احتلال الشعوب الفقيرة والضعيفة".