بقلم :  سمير حبشـى

 
بعد أن سقط آدم وترك سقطته إرثا يكبل عنق البشر ، وفقدت الإنسانية أسمى معانيها   وانحنت إلى أسفل القاع ، وأصبحت كالزورق الضائع بين الأمواج  ، في رحلة  إلى المجهول التي لا تجنى من وراءها إلا الكوارث .. وتَشَوَه الجمال الذي كان ينبُع من روح الإنسان ليضيء عالمه المظلم .. وأصبحت الخطيئة كستائر كثيفة تحجب عن ناظره النور ، وأخذ يصول ويجول إله مملكة الظلمة .. فتسترت الضمائر خلف قضبان الباطل ، تسيًرها أحكام الشيطان غير قادرة على ردعها ، و زحفت عساكر الباطل نحو مملكة الحق ، و لبس الباطل حقًا ، وتزينت الرذيلةُ بثوب العفاف .. و اعتنق الإنسان حياة بلا مبدأ وبلا هدف ، وغفوت النفوس البشرية في معبد الحق  .. ولكن فى وسط عتمة العالم ، والعويل يَعبُر السهول ، ويعلو من فوق قباب المدينة ، وحبال الشيطان تقذف بالسفينة إلى القاع ، وغدت نهاية الإنسان إلى ضياع .. تغلبت المحبة الإلهية على العدل ، وفاضت موجات المحبة التى لا حدود لها ، وكانت محبة الله للعالم بالقدرالذى جعله أن يبذل ابنه الوحيد حتى لا يهلك كل من يؤمن به .. فإذا بعين الله تكلل البشرية من السماء ، والأذرع الأبدية ترفعنا من تحت .. ويظهر الله فى الجسد " عظيم هو سر التقوي الله ظهر في الجسد " ا تي 3: 16 " .. وحتى يتم المكتوب  جاء المسيح وكان كل شيء فيه رائعا ، وأجمل شيء فيه كان صليبه ، ولولاه لما عرفنا معنى الأبديه , وألآم المسيح ودمه المراق كانت الختم للفداء من العبودية .. جاء على هذه الأرض مخترقاً جبال الشر، بهالته القدسيّة وحوله مجد السموات ، جاء ليغسل عنّا الجريمة والعقم الروحى ، لينفض عن أجساد أبنائه تراب السنين ، جاء بقلبه الذى لا يُنبت الحقد ، وبمجده الذى لا يرث الموت ، ووجهه ذى الضياء الذى لا يلبس الكبرياء.
 
 وعلى الصليب صرخ بصوت عجيب – قد أكمل - كلمة ما أعمق ما تملكه من معنى يحير الألباب وتأخذ بمجامع القلوب ، وتعبِّر عن الإنتصار ، وتُشعِر الجميع بإنتهاء الرسالة  ، وتنمُّ عن نصرةٍ من نوع فريد وسط أهوال الموت ، وتلألأت أنوار المجد فوق رابية الصليب ، ووُلد صُبح الرجاء فى حياة البشر ، ثم قال يا أبتاه فى يديك أستودع روحى .. وبالرغم من أنه فرح عظيم بالفداء لبنى البشر .. إلا أن الطبيعة أظهرت غضبها لما حدث لخالقها ومبدعها  ، وصوت الرياح تحول إلى نواح طويل يضرب بالأشجار والنخيل ، عندما رأت الجراح والصليب الذي سمًروه عليه وقت الأصيل ، وبكت الشمس وغطت وجهها بغلالة من السواد ، وكأنها لا تريد أن ترى عذابات من خلقها وسوًاها ، وأنشق حجاب الهيكل ليعلن عن العهد الجديد .. لقد بلغت الكفارة كمالها فى نفس اللحظة الخطيرة التي فرغت فيها جعبة أعداء المسيح من سهامهم ، وانهارت كل براهين حقدهم .. فقد أكمل المشيئة الإلهية ، ونفًذ الوعود وأتم جميع العهود .. إن نبوات ستة آلاف سنة تحققت جميعا فى هذا اليوم ، وإعلانات الأجيال الغابرة تتم كأن الأنبياء الذين تنبأوا بها كانوا شهود عيان ، وجميع أخبار الآباء المتواترة ، وبلاغات الرائين المتتابعة عن المسيح تُنجَز بحذافيرها .. لقد سبقوا ورأوا بعين النبوّة ما قد تحقق في ملء الزمان .
وبالرغم من أن جميع النبوّات السابقة لم تسقط منها كلمة واحدة إلى الأرض ، بل ويُذهل البشر أن نرى منها فقط ما تمّ في مدى الأربع والعشرين ساعة الأخيرة من حياة المسيح ،  فكل حركة أو سكون بين أفلاك السماء أو طبقات الأرض ، وكل قول أو عمل بين أقطاب السياسة أو رجالات الدين ، وكل صغيرة أو كبيرة مما أتاه الحكام وولاة الأمر ، وكل شيء خطير أو حقير مما له علاقة بالصلب والجلد بالسياط وإكليل الشوك ، وطعنة الحربة فى جنبه والثياب والإقتراع عليها ، والخل وصورة تقديمه عندما قال أنا عطشان وهو ينبوع ماء الحياة ، وخشبة الصلب وتوسُّطها بين اللصوص ، إلى كل ما حدث في ذلك الوقت ، إنما كان صورة مطابقة تمام المطابقة لكل ما هو مكتوب ، مما دلّ على أن المسيح هو روح النبوّة ، وأن فيه كل شيء " قد أكمل ". برغم من ذلك يأتى من أصيب بعمى القلب والبصيرة ويحاول غلق كل أبواب الرحمة ويجفف ماء نبع الحب ليقول فى كتاب الشيطان : فى سورة النساء157{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ } . وإن كان هؤلاء اليوم يتناسون فداء المسيح ومجيئه ثانيةً ، وهم يلهون بما يؤمنون من مفاسد ، فلابد أن يحضرهم المسيح كما سيأتى بغتة ، ويُجري قضاءه المحتوم ، ومِن ثمّ نسمع الصوت للمرة الأخيرة يقول : " قد تمّ "ولا مفر لكم من الهاوية .
 
نعم لقد سقط الإنسان سقوطاً لا قيام منه ، ولكن جاء الفادى واحتمل عنا كل ما يجب أن نحتمله ، ودفع الثمن دماً زكياً كريماً ، وهو يقول لنا : " أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا أذكرها" (إشعياء 43) .. نعم قد أكمل ، وأصبح الصليب عنوانا للمحبة الإلهية ، 
لقد أزال الصليب العداوة بين الله والإنسان ، وتمت عليه المصالحة ، هدَّم حصون الموت ، وحطَّم قوة الشيطان ، جعل الأرض سماءً ، وجمع الناس مع الملائكة . 
 
لم يخفى يسوع عن تلاميذه رحلة الفداء ، فقد قال لهم أنه سوف يقوم من الأموات فى اليوم الثالث ، وعرف اليهود هذا قبل الصلب .. ولذلك فبعد موت الفادى على الصليب ، ووضعه فى القبر، ذهبوا إلى بيلاطس وقالوا له : "قد تذكّرنا أن ذلك المضل قال وهو حى: إنى بعد ثلاثة أيام أقوم، فمر بضبط القبر إلى اليوم الثالث لئلا يأتى تلاميذه ليلاً ويسرقوه ، فتكون الضلالة الأخيرة أشر من الأولى" (مت27: 63، 64) وقد نسوا تماما أن كل شئ موثق من السماء بالدقيقة والثانية ..
 
لقد تم توثيق ميلاد السيد المسيح فى بيت لحم بالإكتتاب الأول ، الذى صدر به أمر من أوغسطس قيصر ، وتم توثيق موت السيد المسيح بحكم الإعدام صلباً ، الذى أصدره الوالى الرومانى بيلاطس ممثل قيصر روما فى أورشليم فى ذلك الحين . ولابد أن توثق أحكام الإعدام عند الوالى .. وتم توثيق قيامة السيد المسيح بمحضر ختم القبر الذى طلبه اليهود ، وأصدر الوالى الرومانى أمراً بتنفيذه ، وبوضع الحراس إلى اليوم الثالث ، وذلك بعد أن تأكد من جنوده عن موت السيد المسيح ، بعد أن طعنه جندى بالحربة  ..
 
حقاً لقد ولد السيد المسيح وصلب ومات وقبر وقام من الأموات فى اليوم الثالث ، ووضعوه فى القبر لكن القبر لم يستطع أن يحتفظ به  ، فقد غلب الموت لأنه هو واهب الحياة ،  كانت البشرية تحتاج النصرة من بعد أن ورثوا خطيئة آدم ، فهم من يحتاجون القيامة ، كانوا يحتاجون العتق ، وكانت البشرية جمعاء تحتاج إلى الستر،   فكانت دماءه لهم سترا .. إخوتى : يا أبناء البشرية جميعا مع إختلاف الأوطان والألوان والأديان ، فعنوانكم واحد هو الإنسان ، أسـرعوا .. أبواب الـــرحمة مفـتوحة ، فأدخلوا من كـــف الابن المجروحــة ، فيدك المثقوبة يا إلهى هى كل الكلمات ، والطعنة فى جنبك هي المفردات ، فماذا سأكتب يا ربى .. وقيامتك ألغت كل اللغات . 
كل عام وأبناء المسيح بخير