يكاد يتركز النقد للمرحلة المصرية الحالية في فريقين، فريق الإرهاب تحت شعار "نحكمكم أو نقتلكم"، وفريق المهاويس ودراويش الشعارات العروبية واليسارية و"زمن الستينات التعيس"، تحت شعار "الثورة (الفوضى) مستمرة"
. . لعل أخطر ما تواجهه المرحلة الحالية هكذا، هو ندرة الراصد الناقد الموضوعي العقلاني، وتعرضه في الحالات القليلة التي يسمع فيها صوته الواهن، إلى الرجم بالتخوين والعمالة وما شابه من أحجار ندمن استخدامها. بدون مثل هذه النوعية من النقاد، تسير قافلة الأمة مغمضة العيون. لهذا ومع هذا، لابد لنا من المغامرة برؤية نقدية للساحة المصرية، التي بها من العقبات الفكرية software، بأكثر مما تعاني من العقبات المادية hardware. رغم الأهمية البالغة والبديهية لضرورة حسن اختيار الرئيس المصري القادم، إلا أن الشعب المصري ونخبته، هم من سيوجهون أي رئيس. استجابتهم للإصلاح الحقيقي والجذري، سيجعل الرئيس الواعي المستنير بحق يسلك هذا الطريق
. أو عشوائيتهم واستعصاؤهم على متطلبات الإصلاح الحقيقي والجذري، هو ما سيجعله يلجأ مضطراً لخداعهم ومسايرتهم، وبيع الأوهام الجميلة والحماسية لهم، ما دامت ثقافتنا وسلوك رجالنا، يخلو من قيمة الانسحاب والاستقالة، من أجل احترام ما أمنا به، وتبوأنا الوظائف لأجله. فأي رئيس في الأغلب لا يختار الطرق المعوجة المؤدية حتماً للخراب، لأنه يضمر نوايا شريرة بالأساس، لكنه يستهدف في المقام الأول تسيير مركبه، فإن سارت بالأمانة والاستقامة كان بها، وإن لم يكن بد من الخداع سيفعل. الهدف هو ترقية حياة المصريين. ولهذا الهدف جوانب عديدة، تشمل كل مجالات الحياة، إلا أن القاطرة لجميعها، أو العامل الأهم لتحقيق هذا الهدف، هو الاقتصاد، بما يقتضي إعادة هيكلة الاقتصاد المصري. ليتوافق ويتناغم من الاقتصاد العالمي، ويتطابق مع ملامحه ومعاييره. مطلوب لتحقيق هذا، التخللي عن الشعارات السائدة من زمن الستينات والاشتراكية ورأسمالية الدولة وما شابه، والتحول التدريجي الجاد والمستقيم الخطى، للتحول للسوق الحر. هذا سوف يقتضي أن يمر الشعب بفترة صعبة، بما يتطلب التمهل والروية، التي لا تعني التلكؤ أو الجبن عن مواجهة ما يتحتم علينا مواجهته، أو السير في خطوات بالاتجاه المعاكس، تزيد الحالة تدهوراً. بل التقدم المستمر الدؤوب بخطط مدروسة بعناية.
هل يعرف الرئيس القادم، أن أي محاولة جادة له لإصلاح الاقتصاد المصري، سوف يصنع مئات وآلاف من أبواق وفلول الناصرية واليسارية من أجسادهم سداً منيعاُ، يحول دون تقدمه خطوة واحدة؟!! هو فقط د. حازم الببلاوي، من تجرأ وصرح في أحد البرامج التليفزيونية، أن مصر دولة فقيرة الموارد، ما ترتب عليه أن شن عليه الأشاوس ودراويش اليسار والناصرية حملة إعلامية شعواء. ورغم تركيز السيسي المرشح الأكثر حظاً في الانتخابات الرئاسية القادمة، في خطاب ترشحه للرئاسة عن أهمية العمل، إلا أنه أخطأ خطأ شائعاً، يلوكه الصفوة والعامة ليل نهار، حين قال أن "مصر غنية بمواردها". هذا ببساطة غير حقيقي، فمصر بلد فقيرة الموارد الطبيعية، وهذا الادعاء أو التصور العجيب عن غناها، يصاحبه تصور أن كل المطلوب للرفاهية، أو لما يسمونه "العدالة الاجتماعية"، هو "وضع الحرامية في السجون"، ومصادرة أموالهم وتوزيعها على الفقراء. كان الرئيس السابق مبارك قد حاول عبثاً علاجنا من ثقافة "المنحة يا ريس"، التي كان الحضور ينادون على الرئيس بها، في كل احتفال بعيد العمال، وكأنه عيد لمتسولين، وليس لعمال منتجين. فكان أن ثبَّت قيمة منحة عيد العمال، ووزعها على شهور السنة. لكنها ثقافتنا الأبوية، التي تأبى أن تغادرنا ونغادرها، فمازلنا بعد ثورتين يقال أنهما مجيدتان، ننتظر من الرئيس المن والسلوى، بأن يغتال الأغنياء، ويوزع العطايا على الفقراء. فتلك هي "العدالة الاجتماعية"، التي لا نعرف غيرها.
هي نظرة أو أمل واهم في اقتصاد ريعي كاقتصاد الدول البترولية، حيث يمكن أن لا يعمل الناس أي عمل منتج، ويعيشون رغم هذا في وفرة. مصر على النقيض، ثروتها الوحيدة تقريباً هي "مواردها البشرية"، التي ستصبح بالفعل ثروة، إذا ما تم تحويلها من "أفواه وأرانب"، إلى قوة عاملة مؤهلة منتجة. الفساد الإداري في مصر، لا يقل خطراً عن الفساد المالي البسيط والمباشر لكبار رجال الدولة، عن طريق الاختلاس أو التربح. الفشل في إدارة موارد الدولة، بما فيها إدارة الموارد البشرية، والوظائف الوهمية التي تمنح في سائر مؤسسات الدولة، سواء على القمة، أو في المستويات الأدني، وصولاً للقاعدة، التي يعين بها الملايين على هيئة عمالة زائدة، في ظل مفهوم "الوظيفة الاجتماعية" لمؤسسات الدولة، وهو ما يتدهور أيضاً "بالوظيفة الخدمية والإنتاجية" لهذه المؤسسات. مثلاً لاعب النادي الأهلي "محمود الخطيب"، كان (وربما مايزال) يتقاضى راتباً شهرياً من جريدة الأهرام قدره 100 ألف جنيه، تحت مسمى الدعاية لجريدة الأهرام!! بالطبع هناك ما يعرف بفساد رجال الأعمال، وهو موجود بقدر أو بآخر في كل أنحاء العالم، لكن هناك أولاً مواجهته الدائمة والحاسمة بالقانون، الذي "لا يعرف زينب"، على حد العبارة الشهيرة للفنان فؤاد المهندس في إحدى مسرحياته، وثانياً يستشري فساد رجال الأعمال، حيث يتوحش النظام البيروقراطي للدولة، مستعيناً بترسانة قوانين ولوائح معوقة للاستثمار، وليس العكس
. فالأبواب المغلقة أو المواربة، تجبر رجال الأعمال جبراً، إن ارادوا الاستمرار في استثماراتهم في مصر، وليس سحب أموالهم ومغادرتها إلى الأبد، تجبرهم على الاستجابة لضغوط الفاسدين من رجال الدولة. يحدث هذا بصورة متفاقمة، حين يكون الطريق المستقيم هو أصعب الطرق، وربما هو الطريق المستحيل. بالطبع هناك بعض المغامرين الذين يدخلون تحت ستار الاستثمار، دون امتلاك مقومات رجال الأعمال والاستثمار الحقيقيين، وهؤلاء يتخصصون كلياً في التحايل والنهب، لكنهم ليسوا القاعدة التي تجعلنا نتصور كما هو حادث وشائع الآن، أن رجل الأعمال هو النصاب المهرب والمختلس، مرتدي النظارات السوداء في الأفلام والمسلسلات الدرامية المصرية. .
رجال الأعمال الحقيقيون هم قلة نادرة ثمينة في كل المجتمعات، هم دجاجات تبيض ذهباً، لنفسها وللمجتمع على حد سواء، فإن ذبحناها طمعاً في بيضاتها الذهبية، فسوف نجني الثمار المريرة لمثل هذه الحماقة. الخلاصة أن البيئة الثقافية الشعبية والنخبوية السائدة في مصر، والتي تجرم الاستثمار ورجال الأعمال، وتصور مكاسبهم على أنها امتصاص لدماء الشعب والفقراء والكادحين وما شابه، هي بيئة مانعة لأي تقدم اقتصادي أو اجتماعي، ومن ثم أي تقدم سياسي حقيقي. فساد الفكر والثقافة أخطر بما لا يقاس من فقر الموارد الطبيعية في مصر.
نقلا عن إيلاف