بقلم ثروت الخرباوي
عندما يندر الرجال في حياتنا نبحث عنهم في ذكرياتنا، وننقب عنهم في تاريخنا، فنتيه فخرا بسلطان العلماء العز بن عبد السلام، وننشده اعجابا بالامام احمد بن حنبل وهو يذود عن الأمة في فتنة خلق القرآن، وترتفع أعناقنا لعنان السماء اعجابا بعمر المختار وجهاده، ومنذ سنوات قليلة رحل عن عالمنا واحد من الرجال الذين لم يتلونوا أو يداهنوا، وكان في حياته كلها يعيش قناعاته ويضحي من أجلها بطموحاته، هذا الرجل عليه رحمة الله هو أحمد نبيل الهلالي الذي كان يُعتبر واحدا من أهم الأقطاب الوطنية الشامخة في مصر.
عرفت الأستاذ القدوة أحمد نبيل الهلالي في النصف الأول من الثمانينات في احدى قضايا الجماعات الاسلامية، وكان كل الذي يدور في مخيلتي إذ ذاك هو ان هذا الرجل الذي نشأ في كنف الحركة الشيوعية المصرية حتى أصبح رمزاً من رموزها وعلماً من أعلامها كيف له ان يقف مدافعاً عن فريق يُعدُّ من أكثر الاسلاميين تطرفاً!!
وكان وجه العجب الذي اعتراني وملأ جوانحي هو تاريخ هذا الرجل الغريب الذي كنت أعتبره أعجوبة من الأعاجيب ذلك ان نبيل الهلالي كان ابناً لنجيب الهلالي باشا الذي كان رئيساً لوزراء مصر قبل ثورة يوليو، ليس هذا فحسب ولكن أباه أيضاً كان أحد الرموز الرأسمالية ابان ذلك العهد، وان حفظ له هذا الأب بحسبه كان من كبار رجال القانون تربية منضبطة،
كما كفل له تعليما مرتفعا في قيمته، ولم لا والأب كان من أفضل من تولى وزارة المعارف في مصر، ورغم ان هذا الابن كان في طفولته كما حكى لي يلتف من حوله الخدم ويستجيب لرغباته الجميع، الا ان أحداً لم ينتبه الى ان حالة الصمت التي كانت تلازمه ما هي الا لحظات تأمل يغوص خلالها في أفكار ورؤى تستعصي على كبار المفكرين، وأشد ما كان يقض مضجع هذا الصبى هو ذلك التفاوت الرهيب بين أصحاب الثروة والسلطة
وهؤلاء الفقراء البسطاء الذين تموج بهم الحياة من حوله في مصر، ولطالما أصابته العديد من الأمراض في طفولته الباكرة ولكأنما كان هذا الجسد النحيل يرفض الظلم الاجتماعي الصارخ الذي كان ومازال سمة من سمات الحياة المصرية.
لم ينتبه الأب السياسي والقانوني الأريب الى ان ابنه سيسير حتماً في طريق مختلف وسيظل عمره كله يحمل بين جوانحه آلام هؤلاء الفقراء الحفاة الذين يقتاتون الفتات ويكتسون الأثمال البالية، وفي كلية الحقوق كان الطريق الآخر الذي اختاره نبيل الهلالي، طريق الجهاد من أجل الفقراء ومن أجل طبقة العمال الكادحين، نفد الهلالي الى عمق الحركة الشيوعية المصرية مجاهداً ومفكراً ومنظراً وحركياً، ومن أجل مبادئه عرفته السجون القاحلة المظلمة الكئيبة حيث زُج به خلف قضبانها على مدار عمره حتى أحداث سبتمبر 1981
ولم يكن من المستغرب ان يطلق عليه الجميع لقب «قديس الحركة الوطنية في مصر» وقد عرفته يعيش فكرته وكأنها هو، وقد درج منذ نعومة أظفاره على قيم ومبادئ قلما توافرت في رجل واحد، فمع نسبه الرفيع الا أنه كان قمة في البساطة والتواضع وكأنه خرج من بيت ريفي فقير، وكأنه كان ابناً لعامل أو فلاح بسيط ولم يكن ابناً لرئيس وزراء مصر، ولذلك لم يأخذ العجب رفقاؤه حينما تنازل عن الثروة التي آلت اليه من أبيه، فمثل هذا الرجل لم يُخلق لكي يكتنز أو ينفق ولكنه خُلق لكي يجاهر بنصرة مبادئه التي آمن بها، فلم ينافق أو يتنازل
ولم يفرط في مبادئه ولم يبخل طوال عمره مع تلاميذه ولم يبع أصحابه كما فعل آخرون يرتدون ثياب الفضيلة ويتدثرون بالاسلام، وكان مكتبه مفتوحاً لجميع الفقراء مجاناً حيث كان يترافع وينافح عن حقوق العمال بلا أتعاب بل ودون حتى ان يتقاضى مصاريف الدعوى، كان هذا الرجل صادقاً وصدوقاً ظاهره كباطنه ومظهره كمخبره، رحم الله أحمد نبيل الهلالي فقد مات وتركنا نبحث عن رجال يبيعون دنياهم من أجل فكرتهم، فلم نجد الا رجالا باعوا أوطانهم من أجل ان يحكموها، وعندما فشلوا سعوا لحرقها، وقتئذ عرفنا ان هناك فارقا بين الرجولة والذكورة.
نقلآ عن أونا