الأقباط متحدون - من غير ماتزُق الزبون على حق
أخر تحديث ١٣:٣٤ | الخميس ٢٠ مارس ٢٠١٤ | برمهات ١٧٣٠ ش ١١ | العدد ٣١٣٤ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

من غير ماتزُق الزبون على حق

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

فاروق عطية

حين يتقدم السن بالإنسان يصاب بأمراض عدة أسوأها خرف الشبخوخة (الزهيمر) الذي ينتج غالبا من الكسل الذهني وعدم تشغيل المخ, وأحمد لله أني في منأي عنه لانغماسي في دوامة الحياة اليومية ومشاكلها التي لا تنتهي. وهناك أمراض أخري للشيخوخة لم أستطع الخلاص منها مثل مرض الحنين وهو نوعان, الحنين إلي الوطن (هوم سكنس) والحنين إلي الماضى (باست سكنس). أحاول التقليل من وطأة النوع الأول كلما داهمني بالاستماع لأغنية محمد عبد الوهاب (أحب عيشة الحرية) وأردد معه مدام حبايبي حواليا كل البلاد عندي أوطان, مطرح ما ييجي في عيني النوم أنام وانا مرتاح البال, أما الحنين إلي الماضي فلم أستطع التغلب عليه خاصة إذا ما حدث أمامي موقف لا يعجبني تجدني أسترجع الماضى الجميل للمقارنة.

حين قدمت إلى كندا وفى جولاتى الأولى الاستكشافية لدروب ومسالك المدينة التي أعيش فيها، شملنى السرور والبهجة لمشاهدتى العديد من المحلات العربية التى تحمل أسماء شعبية وأسماء مستوحاة من ألف ليلة وليلة والبعض يحمل أسماء أصحابها، وسرنى كتابة لافتاتها باللغة العربية الحبيبة. ولكن بعد تعرفى على الأسواق الكندية عامة أصابتنى الحيرة الشديدة، فقد وجدت أن المحلات الكبرى هنا لها أفرع فى كل أنحاء المدينة بل وفى كل أنحاء المقاطعة وقد يكون فى كل أنحاء كندا. أما محلاتنا العربية رغم كثرتها فهى مجرد دكاكين لا أفرع لها. فكرت كثيرا فى هذا الأمر وأنا أعلم مقدرة أخواننا الشوام التجارية وحبهم للأعمال الحرة، لماذا لم تتوسع المحلات العربية وتكون لها فروعا عديدة كمثيلاتها الكندية؟ وسرعان ما جاءنى الجواب فى بعض الأحداث التي شاهدتها بنفسى فى أحد المحلات العربية وفى أكبر شوارع المدينة والقريب من المنزل الذى أقيم فيه، أتردد عليه لشراء حاجياتى والتقاط الصحف العربية, سأذكر فقط حدثين منها.

 الحدث الأول:  سيدة عجوز يبدو على سماتها الوهن والضعف وعلامات المرض، كانت تحمل فى يدها كيسا من البلاستيك وفى الأخرى السلة التى جمعت فيها مشترياتها، قدّمت السلة إلى (الكاشبر) التى قدرت أثمانها وقبضت الثمن ووضعت المشتريات فى كيس ناولته للسيدة. فى أثناء خروج السيدة من باب المحل جرى خلفها عامل آخر بالمحل مناديا عليها بصوت صارخ وقبض على كتفها بيد حديدية وجذبها للداخل بقسوة متهما إياها بسرقة محتويات الكيس الآخر الذى كانت تحمله. كانت هذه السيدة لا تجيد الانجليزية، فهى من إحدى دول الكاريبي، حاولت أن تفهّمه أنها اشترت هذه الأشياء من محل آخر ولكنه لم يفهم. وحيث أننى أعرف القليل من كلمات اللغة الأسبانية والكثير من لغة الإشارة فقد علمت منها أنها اشترت هذه الأشياء من محل آخر والإيصال داخل الكيس، وأنها أتت هذا المحل لشراء بعض الأجبان المصرية التى تحبها وبعض خبز البيتا. وحين بحثت داخل الكيس وجدت الإيصال الذى أثبت براءتها، فاعتذرت لها وطيبت خاطرها، ولكنها قالت لى خلال دموعها أنها أبدا لن تأتى هذا المحل مرة أخرى ولا أي من أفراد أسرتها وأصدقائها الكثيرين، وأنها لن تأكل الجبن المصرى الذى تحبه ولا خبز البيتا مدى الحياة، لقاء هذه المعاملة السيئة والتى حتى لم تتلق عنها أي اعتذار أو ترضية من المحل.

 الحدث الثانى: كان ذلك بعد مرور حوالى أسبوع من الحدث الأول، وكان الوقت ليلا، حوالى الساعة الثامنة مساءً، أقبلت سيدة وكان معها كارد خاص بالمكالمات التليفونية الخارجية، قالت للعامل الموجود بالمحل أنها أخذت منه هذا الكارد من حوالى ساعة للاتصال بزوجها المسافر إلى مصر، وعندما حاولت استخدامه تلقت إفادة أن الكارد مؤجل الاستخدام. وقالت أنها أخذته للآستخدام الفورى للاطمئنان على زوجها وليس لاستخدامه بعد أسابيع أو أيام. رد عليها بطريقة غير مهذبة بأنها كاذبة ويمكنها استخدام الكارد فورا، فقالت له بصبر: لديك التليفون وحاول استخدامه. وعندما حاول تلقى نفس الإجابة أن الكارد مؤجل الاستخدام، فألقى لها بالعشر دولارات بطريقة غير لائقة قائلا بالعربية: حاجة تقرف. خرجت السيدة وهى تستشيط غضبا كاظمة غيظها بين جوانحها لأنها تعرف بعض الكلمات العربية.

 هذان ألحدثان رأيتهما بالصدفة (ترى كم من أحداث أخرى لم أرها) جعلتنى أصل للسبب المباشر لبقاء متاجرنا العربية مجرد دكاكين لا تتوسع, فأصحابها والعاملون بها للأسف يتعاملون بعقلية متاجر القطاع العام فى الوطن، يعتبرون خدمة الزبون تفضل منهم عليه ويجب عليه أن يكون شاكرا أو يذهب لمكان آخر ويورينا عرض قفاه, لكنني أحلم بعقلية تجارية عربية ترى العميل دائما على حق حتى لو جانبه الصواب. أحلم بتاجر عربى يحترم آدمية العميل ويتفانى فى خدمته مؤمنا أن رزقه الحلال يأتيه عن طريق خدمة العميل بصدق وإخلاص.

   رجعت (فلاش ياك) إلي أيام الزمن الجميل, حين حصلت علي الشهدة الابتدائية قي بداية خمسينيات القرن الماضى (قيل حركة 23 يوليو) وفي سبيلي الالتحاق يالمرحلة الثانوية. سافرت إلي القاهرة في زيارة خالي الذي يقيم يها وفي حافظتى مبلغ كبير من المال(عشرة جنيهات كاملة) لشراء ملابس ومستلزمات المرحلة المقبلة. صحبنى خالي إلي شارع فؤاد( 23 يوليو حاليا) ودلفنا إلي محل داود عدس لينتقي لي بدلة وعدد من القمصان والأحذية. أطلعنا عامل المحل علي العديد من البدل والقمصان دون أن نصل لبغيتنا فتركنا العامل متأففا. وفى سبيل خروجنا من المحل اعترض طريقنا رجل نحيف البنية قصير القامة يرتدي حلة صفراء كان يجلس قريبا من باب الخروج, من هيئته المتواضعة ظننته فراش يعمل بالمحل. بادرنا الرجل قائلا والابتسامة تملأ وجهه: هل لم تعجبكم بضائعنا؟ أم أن العامل لم يقم بواجبه لخدمتكم؟ فأجابه خالي بأننا لم نجد ما يناسبنا وأن العامل تأفف ضجرا من كثرة تقليبنا في البضائع. طيّب الرجل خاطرنا قائلا: عندي يضائع رائعة بالداخل لم نخرجها للعرض بعد أكيد ستعجيكم. أتي أحد العمال مسرعا لخدمتبا لكن الرجل قال له: دعهم فسأخدمهم بنفسي حتي أمحو ما فعله زميلك المهمل. كان هذا الرجل هو داود عدس صاحب المحل. أحضر لنا بعض البدل والقمصان من المخزن ووقف يشاهد مدي قبولنا, وحين انتقينا  طلباتنا قال: حتي أعتذر عن إهمال عامل المحل لكم 10% تخفيض, ويمكنكم الدفع كاش أو تقسبطا.

   وعدت للوراء لماض أبعد في أربعينيات القرن الماضى, وكان الخواجات اليونانيون كُثر في كل مدن مصر حتي أقصي الصعيد, يمتلكون المقاهي ومحلات البقالة والمشروبات الروحية. كان قريب من منزلنا محل بقالة الخواجة باولو خرالمبو, محل نظيف جيد العرض للبضائع عكس محلات البقالة الوطنية التي كانت مثال للفوضى وعدم التنسيق إضافة لجهل البائع.

شاهدت ذات يوم رجل يمسك في يده قطعة من الجُين ملفوفة في ورقة صفراء (قطعة من كيس للأسمنت) وكان يتناقش مع الخواجة باولو, قال الرجل: مش عيب يا خواجه لما تغش عيل صغير وتديلو حتة الجبنة القريش دى يقرش وهو طلب منك جلنة اسطنبلي؟ رد الخواجة بلغته المصرية المكسرة: يا خبيبي أنا موس يبيع جبنة قريس, باولو يبيع أخسن جبية في مصر, كمان موس بيخط الجبية في ورق زبالة زي دى, إخنا بنخط الجبنة في ورق زبدة نديف وزي الفل خبيبي, الجبنة دي موس من عندي, سوف إبنك استراها منين, بوس خبيبي سوف الجبن عندي أهي كل نوع في البترينة قدامك سوف بنفسك ,مفيس السنف ده خبيبي, أنا موس يبيع قريس وانا كمان موس كروديا خبيبي.

   رحت أكرر كلام الخواجة وأنا أقهقه ضاحكا.. أنا موس كروديا.. الله يجازيك يا خواجة باولو. وأفقت من تأملاتي لأجد أم العربي تنظر إلي في ذهول وهي تخبط علي صدرها قائلة:إيه يا راجل إنت اتخبلت علي كبر.. بتكلم نفسك وتقهقه كمان..!!

 


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter