د.ماجد عزت إسرائيل
مع أوائل القرن الحادى والعشرين كنت قد انتهيت من أطروحتى للماجستير،والتى كان عنوانها "طوائف المهن التجارية"،وبعدها بدأت فى الإعداد لأطروحتى للدكتوراه، والتى كان عنوانها"وادى النطرون فى القرن التاسع عشر"،وكان يجب على البحـث فى شتى المصادر الأرشيفية لجمع المادة العلمية، فذهبت لدير السريان بوادى النطرون ببرية شيهــيت، وحصلت على موافقة من القمص"بيجـول السريانى"، وبمباركة رئيس الدير نيافة الحبر الجليل الأنبا"متاؤس"،ولا أنسى استضافتى وإتاحة إقامتى بالدير،وثقتهما التى أولياه إياها لفحص أرشيف الدير، وهى التى استمرت بعد حصولى على درجة الدكتوراه ولا تزال حتى يومنا هذا، فعلى الرغم من سفرى خارج البلاد؛ إلا أن قلبى وروحى لا تزال تعشق السريان ورهبانه.
كنت أذهب لدير السريان يوم الأربعاء وأمكث حتى يوم السبت من كل أسبوع،واستمر نظامى هذا حتى رحيلى عن مصرنا الحبيبة، فسمحت لى الفرصة بفحص شتى الوثائق المتاحة وتنظيمها فى شكل أرشيف،ففى كل أسبوع كان القمص "بيجول"يفاجئنى بالجديد من الوثائق ــ كان هذا العمل ضمن خطة منظمة تجمع ما بين ترميم المخطوطات،وفحص الأرشيف الوثائقى،وهى التى تعد الآن احد مقتنيات مكتبة السريان الحديثة ــ التى كان يحضرها لى فى كيس بلاستيك أسود اللون، وبها فضلات من قشر البصل والثوم والشموع والقربان الناشف وأحيناياً فضلات فيران ومسامير ونشارة خشب صغيرة،وأوراق متفرقه من نتيجة التقويم السنوية ؛وكنت أرتدى قفازاً وكمامة وبلطو لزوم العمل، وأحينايا كنت أعمل بأدوات هندسية معدنية الصنع عند جمع بعض المخطوطات،لقياس سمك الورقة وطولها ونوعها،وكالعادة كنت أفضل العمل ما بين الرابعة مساء حتى مواعيد التسبحة والقداس فى الرابعة صباح اليوم التالى،تعلق قلبى وشغفى بالبحث العلمى،وبمعايشة الرهبان المتنحين عبر وثائقهم وما تركه،ومعرة مشاكلهم ومعانتهم، فأنا لم أكن باحثاً يقراء الوثائق فقط،بل كان على أرشيفته وتصنيفها وتسميتها،فكنت أعيش ما بين الوثائق والمخطوطات ليل نهار،وكأنهم أصدقائى.
ومن هنا نشأت علاقتى عبر الوثائق الخاصة بقداسة البابا المتنيح"شنودة الثالث" (1971-2012م)،الذى ترهب بدير السريان فى18 يوليو1954م، باسم الراهب "أنطونيوس السريانى"، وكانت قلايته بالدير فى مبنى الحصن القديم،ولا تزال حتى كتابة هذا السطور،كماعاش حياة الوحدة فى مغارة تبعد عن دير السريان نحو 12كم، وكان مسؤلاً على مكتبة المخطوطات،فنسخ العديد من المخطوطات نـذكر منها مخطوط عن طقس العماد حيث يعد نسخة نادرة فى العالم،وقام بتجليد بعض الميامر(قصص القديسين)،وقام بفهرست وتصنيف المخطوطات وتسجيلها فى سجلات.
ومن خلال مجوعة الوثائق التى أطلعت عليها أدركت العلاقة بين قداسة البابا شنودة الثالث،ونيافة الأنبا"ديماديوس"المتنيح أسقف أبياريشة الجيزة وتوابعها،كما جمعته صداقه بنيافة الحبر الجليل الأنبا "صرابامون"رئيس دير الأنبا "بيشوى" ـ فى عام 2009 م كاتب هذه السطور تقابل مع الأنبا صرابامون بديره، فى جلسة محبة بيننا رتب لها احد رهبان ديره المحبين للبحث العلمى، فدار الحوار حول ذكرياته عندما كان راهباً بدير السريان وعلاقته بالبابا شنودة الثالث،وكنت أحكى له بعض المواقف من خلال الوثائق،ويقول لى:" عرفت الحاجة دى أزاى" ــ ومن الطرائف التى قرأته فى الوثائق فى منتصف القرن المنصرم (1954م)،كان نيافة الأنبا "ديماديوس "مسؤل عن مزرعة المواشى بدير السريان،فكان يسمى كل منه باسم فذكر قائلاً:"الحمار حمدى تزوج الحمارة حمدية،وولدت لنا اليوم الحمار حسنى الكبير"،كما كان الرهبان مدرسة فى تعلم الإنسانية والرفق بالحيوان.
على أية حال،تميز قداسة البابا"شنودة الثالث " بالكتابة المنظمة أقصد هنا الخط الواضح،وتنظيم الكلمات ،فكانت كتابته كتابة الكلمة ثم مسافة بسيطة وهكذا وعندما تكتمل الصفحة فتجد خط أفقى وآخر رئسى،كان يكتب فى كراسات أو كشاكيل ،ذات السطور الكبيرة ويعتنى بشكل الحروف ــ وكاتب هذه السطور أكتشف كراسات تخص حسابات الدير والمزراعة بخط قداسته فى وقت كان هو المسؤل عنها ــ ويهتم بكتابة التاريخ وأحينايا يذكر اليوم، وأيضا الكتابة فى قصصات ورق صغرى،وكان يمهر بعضها بالتوقيع باسم الراهب أنطونيوس السريانى.
كما يرجع الفضل لقداسة البابا"شنودة الثالث" فى الحفاظ على العديد من الخطابات الصادرة والواردة للدير فى فترة وجوده(1954-1962م)،حيث توجد عليها الاختام وطوابع البريد واسم المرسل والمرسل إليها ،وهى تعد مصدر من مصادر كتابة التاريخ.
وتوجد العديد من الكروت الخاصة بالبابا شنودة الثالث بعد توليه مهام منصبه،فكان دائما يبدأ بكلمات محبة لرئيس الدير، وينهى كلمته بتوصيه على فلان من أجل الرهبنة أو المصلحة الفلانية،ويكتب عبارة حسب الصالح، ويمهره بتوقيعة وبالتاريخ،وكان يختار كلماته حسب الشخصية المراد مخطباته.
وأخيراً، لقد سردت جزء من قصصات بسيطة، اعتقد من حقى كباحث أن أذكرها،ولكننى عندى الكثير والكثير، مرة عامين على رحيل قداسة البابا شنودة الثالث البطريرك (117) " عن عالمنا الفانى ،واليوم وفي ذكراه الثانية 17 مارس 2014م علينا أن نسترجع زمن الماضى الجميل، ونعتبره قدوه لنا ونتعلم منه فى مواقفناً ،و نتذكر نشيد الموتى عندما يصير الزمن إلى خلود،سوف نراك من جديد،لانك صائر إلى هناك،حيث الكل فى واحد.