قالت لى أستاذتى: خاطرى بحياتك كى تكسبيها. أنا خاطرت فكسبت حياتى.
كان ذلك فى مكالمة صباحية قبل أيام مع الدكتورة نوال السعداوى. المفكرة الماجنة، مجون الثقافة ومجون الحرية.
كل مرة أحكى مع هذه الإنسانة يجيئنى شعور بالصبا. أعود صغيرة جداً جداً. وأشعر بأن فى جعبتى ملايين الأشياء لأقدمها للعالم.
ليس أروع من أن تبلغ السبعينيات ومازالت فى قمة عطائها. تلك هى نوال.
دائما لديها جديد. لم أهاتفها يوماً وأجدها تكرر نفسها أمامى. لا تكرار فى حياة نوال. فالحياة متجددة. والإبداع مهمة أساسية لدى الإنسان.
أخذت تروى لى حكاياتها ومشاريعها الجديدة. تتابع وتشرف على مكتبة تم تأسيسها فى قريتها. تزهو فرحة ببنات القرية اللاتى تحولن إلى التعليم، والاهتمام بالكتاب.
جدول أعمالها لا ينتهى وحتى نهاية العام فكل يوم مقرر لها موعد فيه. ستدور العالم وتجوب البلدان داعية لتحرير بنات جنسها وتحقيق المساواة لهن.
نوال السعداوى الخارجة عن الملة، المرتدة.. كثيرة هى الألقاب التى أطلقها الجاهلون بالحرية، الذين لم يتمكنوا من مواكبة الحضارة ولا أفكار السعداوى لأنها كبيرة على مقاسات عقولهم الضيقة. فلم يجدوا بداً من مداراة جهلهم بإطلاق الألقاب عليها. فى مقابل ألقاب أخرى أطلقها محبوها ومؤيدوها، فتلك رائدة الحركة النسوية، المدافعة رقم واحد عن المرأة، التى تخاطر بحياتها لكى تكسبها.
لن أنسى يوماً ذهبت فيه إلى بيتها الجميل فى القاهرة لأتناول معها الإفطار. بيتها صغير وكبير فى آن. جدرانه ملأتها الكتب. مرتب لا تمل من رؤية زواياه. تناولنا الإفطار فى مطبخها المطل على مساحات واسعة من مدينتى المفضلة.
هناك أخبرتنى كيف أنها لا تخاف العيش وحيدة، تكتب، تقرأ، تسير كما تشاء. أتخيلها تأتى لشقتها هاربة من صخب الحياة المحيط بها فى كل مكان.
أخبرتنى كيف أن العزوبية من جديد شىء ولا أروع. والحرية من جديد مهما بلغ العمر شىء ولا أروع أيضاً.
هناك جلست على مكتبها الكبير تتحدث عن معاناة سيدات مع مجتمع متناقض، فيما رحت أتذكر أنى لطالما تخيلت المكان الذى تكتب فيه تلك السيدة.
قبل سنوات حين تفاجأ بعض مجتمعى بكتاباتى كتبت بعض الصحف السعودية مانشيتاً عريضاً (نادين البدير. نوال السعداوى السعودية) بالنسبة للبعض كان ذلك تشبيهاً بداعية للحرية والتحرر وهو ضمن الفجور والفسق. وبالنسبة لى كان تاجاً لبسته أخيراً.
هذه المرأة التى عملت أستاذة لى ومعلمة منذ الصبا، وللحق فقد كانت معلمة مواظبة. لم ترنى إلا عندما كبرت وتشبعت بالتوق الحرية. قرأت لرجال وفلاسفة كتبوا عن قيم الحرية. لكن غالبيتهم لم تركز على حرية المرأة، حتى لتشعر كأن قيمة الحرية التى يقصدها كثيرون مخصصة للرجال فقط. أما قراءة كتب السعداوى فمدرسة لتعليم معنى أن تكون المرأة حرة. وحرة حقيقية.
فى مكالمة صباحية قبل أيام. قالت لى: انت امرأة قوية.
فأجبتها: وماذا أكون أنا حين أقارن بك. أنت الأقوى.
ردت: على العكس. أريدك أن تكونى الأقوى، لأن تلميذاتى لو لم يكن أقوى منى، فذلك يعنى أنى لم أحقق شيئاً.
هذا أول درس لمعلم حقيقى.
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع