حمدي رزق
هل كان العم نجيب محفوظ وهو يكتب رائعته «أمام العرش»، ويحاكم فيها الرؤساء بداية من «مينا « موحد القطرين حتى السادات صاحب قرار العبور، يتخيل هذه الدراما الإنسانية الحية التي فاقت خيال المصريين؟ لو امتد العمر بمحفوظ هل كان سيضيف فصولا جديدة لروايته؟
سواء أضاف أم لم يضف. هذا جزء من فصل افتراضي يضيفه الأديب يوسف القعيد، لرائعة محفوظ.
انعقدت المحكمة بكامل هيئتها المقدسة في قاعة العدل بجدرانها العالية المنقوشة بالرموز الإلهية وسقفها المذهب تسبح فى سمائه أحلام البشر. «أوزوريس» فى الصدر على عرشه الذهبى، إلى يمينه «إيزيس« على عرشها، وإلى يساره «حورس» على عرشه، وعلى مبعدة يسيرة من قدميه تربع «تحوت« كاتب الجلسة، مسنداً إلى ساقيه المشتبكتين الكتاب الجامع، وعلى جانبي القاعة صفت الكراسي المكسوة بقشرة من الذهب الخالص تنتظر من سيكتب لهم الخلاص من القادمين.
وقال أوزوريس: كل من حاكمتهم كانوا من الموتى. وكانوا ممن حكموا مصر. لكن لأول مرة يقف أمام عرش المحكمة حاكم سابق أو حاكم مخلوع أو حاكم يبدو فى أبعد مكان عن كرسي العرش. لكنه ما زال على قيد الحياة. لذلك فإن كاتب المحكمة يطلب من رئيس المحكمة ومن حضورها هذا الاستثناء.
أومأ أوزوريس إلى حورس: ناد على المتهم الاستثناء.
صاح حورس على طريقة الحجاب في محاكم الأحياء الشعبية:
- الرئيس السابق والرئيس المخلوع والرئيس المحاكم والرئيس المتهم حسني مبارك.
دخل عليهم رجل طاعن فى السن. يقاوم الزمن. يحاول أن يتشبث بمشية عسكرية تثبت أنه ما زال هو. في منتصف الطريق تذكر أن التمارض قد يوفر له حالة من الشفقة عند من يحاكمونه. فبدت عليه فوراً أعراض الأمراض. أصبحت الخطوة أبطأ والمشية مرة للأمام وأخرى للخلف. وحاول أن يبدو أنه لا يعرف طريقه. إلى أن وصل لموقع المتهم من المحاكمة. وقف فيه صامتاً.
وأومأ أوزوريس إلى تحوت كاتب الجلسة فراح يقرأ من كتاب: حكم مصر ابتداء من الرابع عشر من أكتوبر سنة 1981 وحتى الحادى عشر من فبراير سنة 2011. قال فى العام الأول لحكمه أنه لن يحكم سوى مدتين. ومدة الحكم كانت أربع سنوات ثم أصبحت ست سنوات. أي أنه كان يجب عليه ترك الحكم فى سنة 1993. لكنه استمر حتى تركه عنوة وأمام زحف الجماهير المصرية على القصر الجمهورى. فأصبح بذلك أول رئيس مصري في التاريخ يخلعه شعبه.
قال المتهم: جنبت البلاد ويلات الحروب. لم ندخل في حرب واحدة على مدى ثلاثة عقود. وتلك بطولة البطولات. هاتوا لي حاكماً سبق أن حكم البلاد ولم تدخل مصر أكثر من حرب واحدة فى زمنه.
سألته إيزيس: توقفت الحروب بإسم مصر. لكن ما أكثر الحروب التى دخلتها بالوكالة عن الآخرين. لولاك ما تمكنت أميركا من تدمير العراق تحت مسمى: تحرير الكويت. ولولا الصمت المصري ما ضربت إسرائيل غزة. وما اعتدت على جنوب لبنان وحزب الله.
بدأ كاتب الجلسة يتلو التهم: أردت في بدايات البداية الأولى أن تنصف الفقراء لكن من دون أية رغبة فى الاقتراب من الأغنياء. حاولت إرضاء إسرائيل، عدو العرب والمسلمين جميعاً، مع الاحتفاظ بصداقات قليلة عربية. سمحت بزواج السلطة والمال. ولم تقف ضد محاولات رأس المال للسيطرة على الحكم. أهملت إفريقيا. أهملت آسيا. عادت مصر في أيامك إلى ما قبل قيام ثورة الثالث والعشرين من يوليو.
من دون أن يحصل على إذن قال المتهم: هذا ظلم.
قال له حورس: أخيراً عرفت الظلم؟
قال المتهم: مجرد المجيء بى دون المسؤولين الذين كانوا معي ظلم. هم الذين أخفوا الأمور عني. هم الذين قالوا لى إن الشعب يرفل في النعيم. وإن الناس تحيا في سعادة. وأننا من الشعوب التي لا تعاني من أي مشكلة من المشكلات. هم الذين منعوا من يقابلوننى أن يتكلموا إلا بما يرضيني بحجة الحفاظ على صحتي. كنت أسمع هذا الكلام لكني لم أكن أهتم. كنت قد وصلت لحالة تصورت فيها أن الاهتمام ضد صحة الإنسان.
فوجئت المحكمة بالمتهم يأمر كاتب الجلسة بإحضار مقعد له. فاستأذن المحكمة. فأذنت له. فجاء له بقطعة من الحجر جلس عليها ثم طلب الأطباء. وقال إن حياته مهددة. ولا بد من توقيع كشف طبى عليه ليقرر هل تصلح حالته الصحية لاستمرار المحاكمة أم لا؟ واحتارت هيئة المحكمة ماذا تفعل فى هذا الطلب؟ حسبت لكل أمر حسابه. واستعدت لكل موقف بالرد عليه. إلا حكاية المرض واستدعاء الأطباء من أجل توقيع الكشف الطبي عليه. هذا يستلزم مستشفى. وتلك محكمة. ثم من أين لهم بالطبيب الآن؟
ورفعت الجلسة.
وكتبت كتب التاريخ: المحاكمة لم تنته بعد.
وبعض الكتب الأخرى دونت: بل ربما لم تبدأ المحاكمة بعد.
لكن مشهد أخر لم يكتبه نجيب محفوظ ولا تخيله غيره من الأدباء، ومازلنا في انتظاره، وهو مرسي أمام العرش.
بعد عزل محمد مرسي عن حكم مصر في الثالث من يوليو/ تموز 2013، تداول نشطاء «فيسبوك» صورة ساخرة، يبدو فيها «المعزول» وهو يضع يده على النصف الأسفل من وجهه، ولسان حاله يقول «آحيييه» -كلمة يشتهر بها الإسكندرانية-، بينما يبدو الرئيس المخلوع حسني مبارك بضحكة تملأ وجهه، ويرد عليه «مستنيك يا غالي»..!
فماذا لو اجتمع مبارك ومرسي في قفص واحد وجها لوجه، فيما يتحادثان وكيف ينظران إلى الأمر؟ هذا المشهد تخيله الفقيه الدستوري محمد نور فرحات، فكتب حوارا افتراضيا نشره عبر تدوينة له عبر موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك»، يدين فيه «المخلوع» و»المعزول»..
مبارك: ماذا جاء بك يا أخ؟
مرسي: تقصد إلى السجن؟
مبارك: بل اقصد إلى القصر الجمهورى.
مرسى: الشعب.
مبارك: بل انا الذي اتيت بك لان سياستي طوال ثلاثين عاما أدت الى اغراق الشعب فى بحور من مشاكل الفقر والجهل والخزعبلات فظن الجهلاء ان انتخابك قربى الى الله.
مرسي: اذا كان ما تقوله صحيحاُ فلماذا خرج عليّ الشعب في يونيو؟
مبارك: لأنه شعب به جينات ذكاء فطري تضرب بجذورها آلاف السنين، جعلته يكتشف حجم الخداع الذي وقع فيه.
مرسي: هل أنت نادم؟
مبارك: نعم نادم على قبولي منصب الرئيس، الذي لم أكن مؤهلا له وعلى اني اتيت بك إلى مقعد الحكم؛ وهل انت نادم؟
مرسى: المؤمنون لا يعرفون الندم بل يعرفون التوبة؛ وكيف أتوب على شيء لم أفعله ولم اكن املك من أمري شيئاً فلا تزر وازرة وزر أخرى.
القاضى: حكمت المحكمة بحبس الرئيسين السابقين مبارك ومرسي في زنزانة واحدة مدى الحياة مع ترك فراغ في الزنزانة لأى قادم جديد..!
بين محاكمتين
ظل المصريون سنوات طويلة يتمنون أن يروا بين ظهرانيهم رئيس سابق، وتمر السنون ويتحقق حلمهم، ليس بوجود رئيس سابق فقط، بل بوجود رئيسين، وليسوا يرونهم رؤى العين، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، بل يرونهم خلف القضبان على شاشات التلفزيون!
سنتان وثلاثة أشهر ويومان بالتمام والكمال هو الفارق الزمني بين محاكمة مبارك فى 2 أغسطس/ آب 2011 وبين محاكمة مرسي 4 نوفمير/ تشرين الثاني 2013 ، ولكن هل جاءت محاكمة مرسي نسخة مكررة من محاكمة مبارك؟
كثير من التشابه والتناقض في الوقت نفسه بين مسلسل المحاكمات الذي يشاهده المصريون يوميا، حلقات مكررة ولكن هل ستكون النهاية واحدة؟!
يبدأ المسلسل بطائرة مروحية تحلق في سماء المحروسة، على متنها انتقل الرئيسان السابقان إلى مقر انعقاد المحاكمة في أكاديمية الشرطة بحي مدينة نصر بالقاهرة، إلا أن مبارك دخل محمولاً على سرير طبي، يرتدي «تريننج« أبيض زي الحبس الاحتياطي- وتختفي عينيه خلف نظارة غامقة اللون، وسعى ولداه، علاء وجمال المتهمان معه في بعض القضايا إلى حجبه عن الكاميرات بالوقوف أمام السرير الذى يرقد عليه، بينما دخل مرسي إلى قفص الاتهام واقفاً، يرتدي بدلة مدنية، رافضا ارتداء البدلة البيضاء خلال الجلسة الأولى من محاكمته.
داخل القفص بدا الرئيس المخلوع متقبلا لواقعه الجديد وإن بدا شاحباً وفاقداً جزءاً كبيراً من وزنه، وحين نادى القاضي على المتهم محمد السيد حسني مبارك، رد الأخير: أفندم أنا موجود! وحين تلا القاضي عليه لائحة الاتهامات، رد قائلا: هذه الاتهامات أنكرها جميعا.
بينما قال مرسي في بداية جلسة المحاكمة منفعلا: «أنا الرئيس الشرعي لمصر، وأطلب من المحكمة إنهاء هذه المهزلة هنا»، بل طالب هيئة المحكمة بإخراجه من محبسة لتمكينه من أداء مهامه الدستورية! وبعد بداية مضطربة للمحاكمة استغرقت 40 دقيقة تقريبا، اضطر القاضي إلى تأجيل المحاكمة.
إنكار مرسي مرتبط بحالة الإنكار السياسي التي تمارسها الجماعة منذ 3 يوليو/ تموز الماضي، وتمسكها بشرعية مرسي كأول رئيس مدني منتخب، أي أن إنكار مرسي مرتبط باستراتيجية للجماعة لم تتخلّ عنها، رغم ما تسببه لها من خسائر سياسية وشعبية.
كلا المحاكمتين شهدت حالات من الهرج والمرج خلال انعقاد الجلسات، ووقعت بعض أعمال العنف أثناء انعقاد الجلسة الأولى من محاكمة مرسي، بينما نظم أنصار مبارك وقفات خارج مقر انعقاد المحاكمة. وقد تم نقل مرسي إلى سجن برج العرب عقب انتهاء الجلسة الأولى من محاكمته، بينما نقل مبارك إلى سجن طرة.
«قفص قوي يصعب على أحد كسره أو إحداث أي تلف به».. هذا ما وصف به القفص الحديدي الذي وضع فيه الرئيس المعزول، الذي تم تزويده بزجاج يمنع وصول الصوت، فإذا كانت محاكمة مبارك قد بثت على الهواء مباشرة، فإن محاكمة مرسي، تم تسجيلها من دون بثها على الهواء، وقام التلفزيون المصري، بتصوير الجلسة حصريا، وبث لقطات فيديو صامتة له عقب انتهاء الجلسة تخص لحظات وصوله إلى القاعة.
بدت الإجراءات الأمنية في محاكمة مبارك أيسر بكثير عن محاكمة مرسي، وبينما تمكن أنصار مبارك من الوقوف أمام بوابة الأكاديمية التي تشهد المحاكمة، كانت هناك مسافة حوالى 2 كيلومترين تفصل بين آخر مكان يمكن التواجد فيه من دون تصريح لدخول المحاكمة، وبوابة الأكاديمية، حتى أن محمد الدماطي رئيس هيئة الدفاع عن مرسي اشتكى لرئيس المحكمة، وقال إن هذه المسافة الطويلة لم تمكن بعض أعضاء هيئة الدفاع عن المتهمين من الحضور.
وتتباين مواقف أنصار الرئيس الذي تتم محاكمته تباينا شاسعا، ففي حالة مبارك، لم يتجاوز الأمر وجود مئات من أعضاء جماعة «آسفين يا ريس» الذين رفعوا صور الرجل الذي حكم البلاد ثلاثين عاما. أما في حالة مرسي، فقد توالت تهديدات التنظيم الدولي للإخوان بخروج الملايين تعبيرا عن «ظهير شعبي» يساند المعزول، مع إشارات باقتحام قاعة المحكمة وتنفيذ سيناريو إحراق البلد وهو ما دعا وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم إلى التحذير بقوة قائلاً: هناك من يفكر في اقتحام المحاكمة.
تمت محاكمة مبارك بضغط من الشارع المصري على المجلس العسكري الذي كان يترأسه المشير محمد حسين طنطاوي، لكن محاكمة مرسي لم تتم بضغط جماهيرى ولكنها بقرار محكمة استئناف الاسماعيلية ـ بينما كان مرسي وقتها على كرسي الحكم بتهمة ضلوعه وتخابره مع «حماس« لاقتحام السجون والهروب من سجن وادي النطرون (غربى القاهرة) .
وتتبدى نقطة خلاف تتعلق بالموقف الخارجي من محاكمة الرجلين، فبينما اعتبر كل من الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة، أن محاكمة مبارك تعد «شأناً مصرياً داخلياً» على خلفية المساندة الغربية لثورة 25 يناير، ظلت بعض الدوائر في الولايات المتحدة وأوروبا تطالب بالإفراج عن مرسي في إطار تردد غربي في تسمية ما حدث في 30 يونيو وهل هو انقلاب عسكري أم ثورة شعبية. بالرغم من الشرعية التى يتشدقون بها كان يفترض أن تنعدم تلقائيا بطلب محاكمه مرسي من قبل محكمة استئناف الاسماعيلية، وهو ما كان يستوجب أن يتنازل عن منصبه أو حصانته، لكي يتم التحقيق معه، مثلما حدث مع الرئيس الاميركى «نيكسون»، الذي تنازل عن منصبه عندما وصله صك الاتهام رسميا من المحكمة الاميركية.
بعيدا عن الإجراءات الشكلية، ليس مطلوبا أن نتعامل مع محاكمة المعزول مرسي من منظور تبادل الأدوار مع المخلوع مبارك، أو أن يحتل الإخوان مقاعد «إحنا آسفين ياريس» وأن تتحول إلى فصول من التسلية والمعارك الكلامية أمام مقر المحاكمة تنتهي بحكم لا يرضي القاتل ولا المقتول، كما يقول الكاتب محمد حسان، الذي تمنى ألا يدمن طرف من الطرفين قلب الحقائق والأوضاع، فالإخوان يدعون إلى الزحف الكبير بحجة أن الخيانة تحاكم الأمانة، والديكتاتورية تحاكم الديموقراطية، والفساد يحاكم الإصلاح، والقتلة يحاكمون الشهداء، والعملاء يحاكمون الوطنيين، والدمويون يحاكمون إرادة الشعب، وكأن الإخوان أبرياء في معارك الخيانة والديكتاتورية والفساد والقتل والدموية والعمالة. والمباركيون ينظرون إلى الموقف وكأنه انتصار لتاريخ مبارك وأنهم كائنات منزوعة الفساد، خالية من الاستبداد مجردة من القمع كاملة الممارسة الديموقراطية والاستقرار ومكملة الأمن وبانية الوطن، رغم أن هؤلاء المباركيين هم النماذج الواضحة لكل فساد ورمز الدكتاتورية وأساس وأد أية ولادة شعبية للديموقراطية..!
مقارنة أخرى عقدها الكاتب إبراهيم منصور رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة «التحرير»، فمبارك جرد الوطن من الكفاءات ومن القوى الحية تمهيداً لتوريث ابنه وجماعته التي بدأت في الاحتكارات للسيطرة على البلاد وإعادة ترتيبها، وفق قوانينهم للسيطرة. ولعله لم يكن يتخيل أبداً ـ أي مبارك أن يخرج الشعب في ثورة ضده، فالرجل كان يعيش في الخيال ويهيأ له انه صاحب فضل على الشعب. الأمر نفسه في الفساد السياسي ينطبق على محمد مرسي، فلم يكن أي قرار يتخذه إلا بعد الرجوع إلى مكتب إرشاد الجماعة، ولم يكن أبداً ينظر الى مصر كوطن، وإلى المصريين كشعب، بل كان يعتبرهم، أو قل إن الجماعة كانت تعتبر الشعب المصري، يسيرون على منهج السمع والطاعة، فكانت سنة حكم محمد مرسي وجماعته سنة من الفساد السياسي والاستبداد بالسلطة، واستمرار سياسات مبارك نفسها، من تجريف البلاد من الكفاءات، ومنح المناصب والنفوذ للأهل والعشيرة..
.
المحكمة المحجوبة
في أولى جلسات محاكمة الرئيس السابق محمد مرسي و132 آخرين في قضية اقتحام السجون والهروب منها أثناء جمعة الغضب في 28 يناير 2011، حضر مرسي مرتدياً «تريننج أبيض»، لكن بمجرد أن دخل مرسي قفص الاتهام الزجاجي بدا غاضباً، وقال بصوت عالٍ للقاضي «أنا رئيس الجمهورية.. أنت مين يا عم؟»، فرد عليه رئيس المحكمة «أنا رئيس محكمة جنايات مصر»، ثار مرسي قائلا: «أنا هنا من امبارح بالليل في الزبالة دي، أنا رئيس الجمهورية، أنا الرئيس الشرعي للبلاد»، وتحدث مرسي كثيراً، لكن أحداً لم يسمعه بسبب وضعه داخل قفصٍ زجاجي.
المثير للسخرية هو حديث أعضاء بجماعة الإخوان عن قيام الأجهزة الأمنية بحقن مرسي بـ «حبوب هلوسة« حتى يظهر بصورة غير متزنة ويبدو مضطرباً ومختلاً في أفكاره وحديثه! وهو ما جعل نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي يتساءلون بسخرية «طيب بالنسبة للهرتلة إللي كان بيعملها فى خطاباته»!
لكن في ثاني جلسات محاكمة المعزول، في قضية التخابر مع جهات أجنبية، التزم مرسي الصمت داخل القفص للمرة الأولى، وظل جالسًا معظم الوقت على مقعده داخل القفص، ولم يتحدث إلى المحكمة إطلاقًا، واكتفى برد التحية على بقية المتهمين أثناء دخوله القفص.
لم يكن كافياً أن تكون حاضراً داخل جلسة المعزول، حتى تستطيع مشاهدة المتهمين بشكل واضح، فبدا بعض الصحافيين، كما وصفوا أنفسهم، بأنهم مثل «شاهد ما شفش«.
فبالرغم من أن محاكمة الرئيس الأسبق حسني مبارك، أقيمت في قاعة محاكمة مرسي ذاتها في أكاديمية الشرطة، شرقي القاهرة، إلا أن رؤية مبارك وباقي المتهمين كانت شبه متاحة، إلا من جسدي ولديه، علاء وجمال، المتهمين معه، واللذين سعيا لحجبه عن الكاميرات واقفين أمامه، بينما حيل بين القفص المتواجد فيه مرسي والحضور في المحكمة، قفص آخر، مغلق تماما، إلا من فتحات بسيطة، مما جعل رؤيته غير متاحة.
وأصبحت الوسيلة لرؤية مرسي وباقي المتهمين هي الانتقال إلى مقدمة القاعة، وهو الأمر الذي كان يلجأ إليه بعض الصحافيين من الحضور، بعد كثير من الإلحاح على رجال الأمن، وأمام هذه الحالة، كانت حاسة السمع هي الوسيلة الوحيدة للتواصل داخل القاعة، فسمع الحضور مرسي كثيرا، ولكن لم يتمكن الكثيرون من رؤيته.
كما لم ير الحضور اللقطة الشهيرة التي بثها التلفزيون الرسمي المصري ضمن تسجيل مصور قصير لوقائع الجلسة، أظهر المتهمون المتواجدون مع مرسي في القفص نفسه وهم يديرون ظهورهم إلى هيئة المحكمة ويلوحون بشعار «رابعة» بينما مرسي وحده كان يقف في مواجهة المحكمة.
«هاشتاج محاكمة ـ مرسي« الذي انطلق منذ جلسة محاكمته الأولى، تدفقت عليه تغريدات الزوار، بين من يراها «يوم القصاص« من مرسي وجماعته، وبين من يراها «زمن المحنة الثانية للجماعة«، وبين هذا وذاك، كانت القفشات الساخرة« هي الأبرز، حيث علق أحد النشطاء على تأخر بدء الجلسة قائلا: هو مرسي بيطول حتى في المحاكمات.. وحشانا خطاباتك يا كبير«.
أما القفص الزجاجي الذي يوضع بداخله مرسي، فجعل كيرلس سامح يعلق ساخراً أن «مرسي أول رئيس يتحط فى فاترينه«، بينما كتب سامح محمد: «يا جماعة الشريط اللاصق على الفم أفضل من القفص الزجاجي«. لكن تركيز الشارع المصري انصرف عن متابعة المحاكمات بعد كثرتها ومماطلتها، والخروج منها بلا جدوى تذكر، كما تقول شيرين العقاد، بمركز النديم.
محاكمة مرسي ومبارك، في رأي رئيس الحكومة المستقيلة حازم الببلاوي، تعكس حضارة ورقي الثورة التي حدثت في مصر، مؤكدا أن عدم اللجوء إلى محاكمات ثورية أو استثنائية بحق الرئيسين المعزولين يعكس ثقة الدولة في قضائها واحترامها لفكرة القانون الأمر الذي وجه رسالة طمأنة للناس بأن الدولة تسير في الاتجاه الصحيح.
بصرف النظر عن تعامل القضاة مع قضية مرسي بالعدل من عدمه فإن ظروف هذه المحاكمة سياسية إلى أقصى درجة، من وجهة نظر الكاتب كريم الجوهري، الذي اعتبر أن مرسي لا يمثل وحده أمام المحكمة وإنما مصر بأكملها: النظام القديم والنظام الذي كان موجودا في ظل الإخوان والنظام الحالي. ففي الوقت الذي يحاكم فيه مرسي تجري أيضا محاكمة سلفه حسني مبارك. وهكذا يقف القضاء على محك العدالة والكيل في كلتا الحالتين بمكيالين مختلفين. في الواقع من الوارد أن يحصل مبارك في النهاية على البراءة ، بينما يُرْسَل مرسي إلى السجن. والسبب أيضا هو أن مؤسسات الدولة تعمل على التعويق المستمر في حالة مبارك بينما ستتعاون بالتأكيد وبكل سرور في حالة مرسي.
على أي حال فإن تواجد الرئيس المعزول محمد مرسي داخل قفص الإتهام في المكان نفسه الذي تواجد فيه الرئيس المخلوع مبارك، يعتبر مؤشرا جيدا للشعب المصري ويعطيه ثقة كبيرة في نفسه بأنه المتحكم الاول في الدولة، كما يقول عمار علي حسن الباحث بمركز الأهرام للدراسات، حيث يشعر الشعب المصري انه «صاحب السلطة، يعطيه لأي رئيس وينزعها من أي شخص في أي وقت بعدما عزل رئيسين وقام بمحاكمتهما في عامين فقط».
عمار كان يتمنى أن تكون محاكمة محمد مرسي محاكمة سياسية على الجرائم السياسية التي إرتكبها في حق الشعب خلال العام المنقضي، بدأ من الحنث بالقسم الذي اقسمه بالمحكمة الدستورية مرورا بالجرائم السياسية الأخرى التي إرتكبها في حق الوطن وفشله في إدارة شؤون البلاد. كما كنت أتمنى محاكمة مبارك أيضا سياسيا لان الجرائم المفصلة كالقتل أو التحريض من السهل التلاعب بها عن طريق المحامين مثلما حدث في قضية المخلوع مبارك.
نقلا عن المستقبل