تلقيت دعوة كريمة من اتحاد المحامين العرب لحضور ندوة عن التراث الحضارى فى المنطقة العربية وما ناله من تدمير وعنف فى ظل الثورات والصراعات المسلحة والعنف الداخلى ولبيت الدعوة شاكراً، وعندما دخلت مبنى الاتحاد تذكرت أننى لم أدخله منذ أن كان الصديق العزيز فاروق أبوعيسى- من السودان- هو الأمين العام للاتحاد وكنت آنذاك عضوا فى الأمانة العامة.
واتحاد المحامين العرب أنشئ فى زمن الرئيس جمال عبدالناصر وأعطى بعض الحصانات والضمانات وكان الأمين العام الأول- على ما أذكر- هو الأستاذ عبدالرحمن الصورانى (أبو عمر) الفلسطينى الجنسية ثم تداول على رئاسة الاتحاد عدد من كبار المحامين العرب. والأمين العام اليوم هو الأستاذ عمر زين اللبنانى الجنسية وقد أسعدنى التعرف إليه عندما لبيت دعوته.
وللأمانة فقد خرجت من الندوة حزيناً من جراء ما سمعته من المختصين الذين تناولوا موضوع تدمير التراث العربى فى الكثير من المناطق العربية والذى ملأ قلبى بالشجن والحزن والحسرة أكثر من غيره هو ما يحدث فى المسجد الأقصى وفى القدس العربية بالذات.
وقد تحدث فى الندوة من المختصين الأستاذ سامح سمير من المركز المصرى للحقوق الاقتصادية. وكان حديثه أساساً عن جوانب القصور فى التشريعات العربية التى يفترض أنها صدرت من أجل حماية التراث، ولم تحقق الغايات المقصودة من ورائها.
وتحدثت الدكتورة مونيكا حداد المصرية التى تعمل أستاذة فى جامعة برلين عما أصاب التراث فى مصر من دمار وتخريب.
أما الجزء بالغ الإيلام فى الندوة فكان كما ذكرت هو ما تعلق بفلسطين وبالذات بما يحدث فى المسجد الأقصى بواسطة إسرائيل من أجل طمس كل أثر عربى فى القسم العربى من المدينة من أجل إبراز حائط المبكى وهيكل سليمان، وكأنه لا شىء فى القدس العربية إلا هذان الأثران أما المسجد الأقصى وتاريخه وكونه أولى القبلتين وثانى الحرمين فقد أسدل على ذلك كله شعار من النسيان.
لقد كانت بالفعل ندوة غنية ومحزنة.
من الذى يعرف أن فى مصر بلد حضارة الخمسمائة ألف سنة قبل الميلاد يجرى تدمير الآثار ونهبها وتجرى ضربات يقوم بها لصوص الآثار ولا من رقيب ولا حسيب. وينهب هؤلاء اللصوص ما يحصلون عليه من آثار فى أماكن متعددة ويبيعونها إلى من يريد شراءها للاتجار بها سواء فى الداخل أو الخارج فى غيبة عن كل رقابة ومحاسبة.
وجرى حديث عن كيف نهبت آثار عديدة من منطقة سقارة بالذات، وكيف أن الذين كانوا ينهبون تلك الآثار كانوا لا يعرفون قيمتها ولا أهميتها التاريخية وكانوا يبيعونها بأبخس الأثمان لمن يتاجرون فى آثار أغنى بلاد العالم فى آثارها وأعرقها حضارة وهى غافلة عن ذلك كله.
وجرت فى الندوة أحاديث عما يحدث فى آثار ليبيا فى المنطقة الغربية والتى كانت تعتبر جزءا من الحضارة الفينيقية. وقد زرت تلك الأماكن وأنا فى مقتبل العمر عندما كنت أعمل فى النيابة العامة وانتدبت بين ثلاثة من أعضاء النيابة العامة لنعمل أحدنا وأقدمنا فى ولاية طرابلس والثانى فى ولاية بنغازى والثالث وهو أنا الذى كنت أحدثهم فى ولاية فزان. وكانت ليبيا آنذاك تعيش فى ظل حكم الملك إدريس السنوسى وكانت تأخذ بالنظام الفيدرالى الذى يجمع بين ولايات ثلاث. والآن أصبحت ليبيا لا يعرف لها أحد شكلاً ولا هوية ولا نظاماً واضحاً للحكم.
وعندما كنا نحن الثلاثة الذين ذكرتهم فى ليبيا كان ذلك قبل عصر النفط وكنا نتقاضى رواتبنا من مصر. كنا نأخذ مائة وعشرة جنيهات مصرية وكانت تساوى فى وقتها مائة واثنى عشر جنيها استرلينيا.
ألا ترى كيف تحول الحال من النقيض إلى النقيض.
ليس فى كلامى هذا تمجيد للماضى إطلاقاً فقد كان فيه من الأمور السيئة الكثير ولكن يبدو أن التخلف عميق الجذور، وأننا نحتاج إلى عوامل أقوى من العوامل التى تدمر التراث لكى نقتلعه من جذوره.
ورغم التشدق بالإسلام فإن المتحف الإسلامى بكل ما فيه من آثار نادرة ليس لها مثيل فى العالم كله ومن كل العصور الإسلامية بدءاً من عصر الخلفاء الراشدين مروراً بالأمويين ثم العباسيين ثم بعد ذلك المماليك ثم الخلافة العثمانية، كل هذه الحقب كانت لها شواهد فى المتحف، ولست أدرى على وجه اليقين ماذا بقى منها وماذا أتلف.
ويبدو أن تدمير التراث الحضارى العربى أمر ممنهج وقديم. كانت دار الحكمة فى بغداد أكبر مكتبة فى العالم فى وقتها وعندما أغار التتار على بغداد ألقوا بهذا التراث العظيم فى نهر دجلة إلى المدى الذى قيل فيه إن مياه النهر تغيّر لونها وأصبح أزرق بلون الحبر.
وفى العصر الحديث وبعد الغزو الأمريكى للعراق- بعد جريمة غزوها للكويت- فعل الأمريكيون نفس الشىء ونهبوا متحف بغداد الكبير وتركوه خاويا على عروشه.
لماذا نفعل هذا بأنفسنا قبل أن يفعله غيرنا.
وأحب أن أذكر هنا حادثة صغيرة لكن دلالتها كبيرة. نشرت بعض الصحف المصرية خبراً فى مساحة صغيرة ولو كان الأمر بيدى لنشرته على عدة أعمدة حتى يلفت نظر القراء جميعاً، الخبر مفاده أن مواطناً فرنسياً اشترى قطعة أثرية مصرية من العصر الفرعونى. اشتراها فى مزاد بطريقة شرعية. وعندنا فى لغة القانون نقول إن المزاد يطهر من العيوب التى قد تلحق عملية الشراء. ومع ذلك فقد تطوع هذا المواطن الفرنسى المتحضر الذى يعرف ما للأثر من قيمة أن يقدمه للسلطات المصرية- هديه منه- لكى تضعه حيث يجب أن يوضع.
ما أبعد الفرق بين التحضر والتخلف.
ولا يفوتنى أن أذكر هنا أن اثنين من أساتذة كلية الآثار حضرا الندوة وأثرياها بعلمهم كذلك حضرها الدكتور/ محمد الكحلاوى الأمين العام لاتحاد الآثاريين العرب.
حقاً كانت ندوة غنية لكن كانت فى نفس الوقت محزنة.
وتقديرى أننا إذا أخذنا بأسباب العلم وحررنا عقولنا من التخلف فإننا سنحقق ما يجب أن نحققه من تقدم.
مصر تستحق منا أن نبذل الكثير من أجلها.
والله المستعان.
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع