إن فساد ستين عاماً من حكم عسكر 23 يوليو 1952 وتوابعه، لم يقتصر على فساد الجالسين على كراسي السلطة، فلو كان كذلك لهان الأمر. فلقد امتد ذلك الفساد لكافة أركان المجتمع المصري. ولعل أشد ما تبدى فيه هذا الفساد بشاعة، هو ما تجلى في فساد وخواء وهوس من اتخذوا طوال تلك العقود جانب المعارضة. إذ نجد البشاعة والتخلف في أفكارهم وأيديولوجياتهم، علاوة على انحدار أخلاقياتهم، وتلوثهم بالعمالة لطغاة الجوار، واللعب على كل الحبال، ارتزاقاً ونفاقاً ومتاجرة
. الكارثة الحالة أن هؤلاء هم من يقدمون أنفسهم لنا الآن باسم ثورة 25 يناير 2011!! الآن لن يستطيع عسكري الاستبداد بالسلطة، ما لم يكن ما يواجهه هو ساحة خراب، خالية من الشخصيات السياسية المحترمة ذات الوزن الجماهيري، وفي نفس الوقت عامرة بالمخربين الإرهابيين، وبالفوضويين من أهل اليسار والعروبة والناصرية الحمقاء. فوجود هؤلاء يعطية المبرر والشرعية، لأن يضرب على الجميع بيد من حديد لحماية الوطن، وفي غمرة هذ الضربات الحديدية، قد يدهس أي نبتات أو براعم جديدة تتفتح
. . هذا هو المسقبل الرمادي الذي ينتظر مصر الوطن. عموماً يوجد "نظام سياسي أمثل"، من حيث النتائج التي يحققها. لكن لا يوجد "نظام سياسي مثالي"، يصلح لكل زمان ومكان. فلكل حالة نظام يتفق مع ظروفها. وتتدرج النظم في رقيها الحضاري تدرج درجات سلم، لتصل في النهاية إلى ما سميناه "النظام السياسي الأمثل". ولم يوجد حتى الآن نظام سياسي قادر على استنبات الزهور والورد، في مستنقع مماثل للمستنقع المصري. ترشيح السيسي لنفسه في الانتخابات الرئاسية، بعدما كان قد قال أنه لن يفعل، هل يعد تأكيداً لوجهة نظر من يعتبرون ما حدث في 3 يوليو 2013 انقلاباً عسكرياً على سلطة شرعية، سيراً على نهج جميع الجنرالات، الذي يقومون بانقلابات عسكرية، ويتضمن أول بيان لهم عزوفهم عن السلطة، مع وعد بتسليمها للمدنيين في أسرع وقت؟!! ربما تكون النظرة العجلى والنمطية للحالة المصرية، مرجحة للإجابة بنعم على هذا التساؤل. لكن حقيقة الأمر فيما نظن، تختلف عن هذا تماماً. إذ لابد لتبين معالم الوضع السياسي المصري الآن، أن نرجع في التاريخ، إلى ستة عقود ماضية، أي إلى لحظة انقلاب العسكر في 23 يوليو عام 1952، وننتقل خلاله من مرحلة لأخرى، لنرسم في مسيرتنا العمود الفقري للسلطة المصرية وطبيعته. بعد الانتخابات البرلمانية المصرية عام 2010، والتي انفرد فيها الحزب الوطني المباركي بالبرلمان، صار من الواضح أن الأمور تتجه لتوريث السلطة لجمال مبارك. ما يعد خروجاً عن خط توارث السلطة في مصر، خلال المراحل الثلاث السابقة، والتي توارث خلالها الرجال ذوو النشأة العسكري السلطة واحداً بعد الآخر. وظل طوالها للمؤسسة العسكرية وضعها المتميز، رغم عدم تدخلها فعلياً في عملية الحكم.
فكانت من خلف الكواليس هي الضامن الأساسي لاستقرار البلاد واستمرارية الحكم. ومع الوقت خلال عهد مبارك، صار للمؤسسة العسكرية كيانها الاقتصادي الخاص، بمميزات تضمن لها التفوق، على سائر المؤسسات الاقتصادية، من قطاع عام أو خاص. هكذا ووفقاً لموازين القوى الحقيقية على الساحة المصرية، لابد وأن يتحقق مشروع تولي رئيس خارج نطاق رجال الجيش، تحت حماية وضمان القوات المسلحة، وليس استناداً لذاك الحزب الكرتوني المسمى الحزب الوطني، ولا إلى انتخابات ديموقراطية هيكلية، لا تلعب أكثر من دور المكياج على وجه بالغ القبح. يحق لنا هنا افتراض تساؤل دار في أروقة المؤسسة العسكرية: هل من الواجب في هذه الحالة استمرارية مساندة المؤسسة العسكرية للقادم المدني، فتلعب هكذا دور الجندي المجهول، مع الأخذ في الاعتبار أن تطور أمور البلاد بعد هذا، يمكن أن يذهب إلى تحجيم قوة المؤسسة العسكرية، أم أن الأفضل هو الوقوف في حالة حياد وترقب، حتى تتضح إلى أين تتجه الأمور؟ خلال الثلاثة أيام الأولى من قيام ثورة 25 يناير 2011، كانت مفاجأة انهيار وزارة الداخلية. ولم يظهر لحزب مبارك ووريثه أية وجود أو فعاليه. هنا يتكرر ذات السؤال، لكن في ظروف مختلفة دراماتيكياً
. هل تتقدم المؤسسة العسكرية الآن لإنقاذ نظام مبارك، أم تلتزم حدود دورها في الحفاظ على أمن الوطن، وتترك مبارك ونجله لمصيرهما؟! لا نعلم كم من الوقت استغرقت المشارورات، ليخرج علينا بيان المجلس العسكري. لكن ما تم إعلانه، وهو أن المجلس قد قرر الانحياز للشعب وثورته، لم يكن فيما نظن حقيقياً. فالأرجح أن القرار كان هو الحياد التام بين الجميع، والالتزام بحماية الوطن. خاصة وقد خرج مارد الإخوان المسلمين من القمقم، وبدا مسيطراً على ما سمي وقتها "ميادين التحرير".
ترتب على هذا بالتبعية حالة حياد، إزاء تحركات وبعثات قوات حركة حماس وحزب الله إلى الأراضي المصرية. فتم تركها تغزو مصر وتقتحم سجونها، تقتل من تقتل، وتحرر من استهدفت تحريرهم، لتجهز على هيبة وسيطرة وزارة الداخلية أداة حماية النظام، ثم تنسحب في سلام وأمان، دون أن ترى المؤسسة العسكرية فيما حدث ما يستحق كسر حالة الحياد، لدفع هؤلاء الغزاة لأرض الوطن وسيادته. جاءت الانتخابات الإعادة الرئاسية، لتحمل للمجلس العسكري واحداً من خيارين، إما أن يفوز رئيس مدني هو أحمد شفيق، الذي انفصل عن المؤسسة العسكرية منذ زمن، وسيكون وصوله للكرسي بواسطة انتخابات ديموقراطية حقيقية، وليس استناداً لمظاهرة المؤسسة العسكرية له. أو خيار سيطرة الإخوان على رئاسة الجمهورية، لتدين لهم السلطة في مصر بكاملها. خيار رئيس مدني كان يعني بداية نهاية تميز المؤسسة العسكرية، لتأخذ الوضع الطبيعي لمثل هذه المؤسسات في الدول الديموقراطية. أما الخيار الثاني وهو سيطرة الإخوان، فقد تضمن احتمالين
. أولهما أن توفر الظروف الحرجة المصاحبة لاعتلاء الإخوان السلطة، إمكانية حصول المؤسسة العسكرية على وضع متميز، يفوق من حيث دستوريته، الوضع الذي تحقق عملياً وفي صمت، طوال العهود الماضية منذ يوليو 1952، وهذا ما تحقق بالفعل في دستور 2012. والاحتمال الثاني هو فشل الإخوان الذريع في إدارة البلاد، وهو ما كان يتوقعه لهم أغلب المراقبين. وهذا يعني أنه لن يمر وقت طويل، حتى يسقط الإخوان، لتعود ثمرة السلطة إلى مكانها الطبيعي والوحيد المهيأ لتلقيها، ألا وهو المؤسسة العسكرية، وقد اتضح جلياً هزال الجانب الآخر، المسمى بالتيار المدني. هكذا كان استبعاد أحمد شفيق بما يمثله من احتمالات سلبية، يصب في صالح المؤسسة العسكرية. مقابل اعتلاء الإخوان للسلطة، بما يمثلونه من احتمالات إيجابية
. وهذا ما تحقق بالفعل، سواء بنتيجة طبيعية لانتخابات الرئاسة، أو نتيجة معدلة، دفعت إليها الكتلة الحرجة المناهضة لأحمد شفيق في الميادين، علاوة على ضغوط الإدارة الأمريكية، التي كانت سباقة في الرهان على الحصان الأبرز في السباق. حين ظهر فشل حكم الإخوان جلياً، نتيجة لنهج الأخونة، الذي اندفعوا إليه بغير روية ولا تقدير لعواقب، علاوة على تردي كفاءات رجالهم، ولوقوف قوى المجتمع التقليدية ومؤسسات الدولة وقطاعاً هائلاً من الجماهير، في موقف العداء لهم. وحين تسبب عناد الإخوان وغرورهم، في فشل توظيف المؤسسة العسكرية لموقفها القوي، في القيام بدور الوساطة بين الإخوان والتيارات المعارضة لهم. بدأت البوصلة المصرية تتجه إلى الإطاحة بحكم الإخوان، لتسقط الثمرة بين يدي الجهة الوحيدة المتماسكة والمؤهلة لحكم البلاد، وهي المؤسسة العسكرية. هكذا كانت استجابة المؤسسة العسكرية – وليس السيسي وحده – لهبة الشعب في 30 يونيو 2013، وكان أن تم إنقاذ البلاد والعباد من حكم الإخوان المسلمين، تمهيداً لعودة مصر إلى قواعدها سالمة، أو بالأصح شبه سالمة، لتستقر بين أحضان وفي عيون المؤسسة العسكرية
. هكذا نستطيع أن نتبين لماذا لم يلتزم السيسي بمنصبه كوزير للدفاع، حماية للبلاد ولنفسه ومجموعة المجلس العسكري من خطر عودة الإخوان، بحيث يتيح الفرصة لرئيس جمهورية مدني، يأتي مستنداً فقط وحصرياً للجماهير التي ستدلي بأصواتها لصالحه في انتخابات تنافسية. فهذا الخيار كان سيعود بنا إلى ذات وضعية انتخابات الإعادة بين أحمد شفيق ومحمد مرسي، لكن هذه المرة سيكون الخيار مدنياً/ مدنياً، وليس مدنياً/ دينياً كما كانت الحالة الأولى. كان هذا الخيار سينأى بالمؤسسة العسكرية المصرية، ومصر كلها، عن شبهة الانقلاب والحكم العسكري، مع تحقيق ذات درجة الضمان المطلوبة، لحماية البلاد من الفوضى ومن عودة الإخوان المسلمين.
الحقيقة أنه ليس طموح الفريق أول/ عبد الفتاح السيسي في السلطة، ما جعله يتراجع عما سبق وأكده، من عدم نيته الترشح للرئاسة. ولا هي فقط مصلحة المؤسسة العسكرية، في تولي رئيس ينتسب ويستند إليها، كما قد نفهم من البيان الأخير المحير في أهدافه، الذي أصدرته المؤسسة العسكرية، ويحوي رؤى سياسية لم يكن يجدر بالمؤسسة العسكرية أن تتطرق إليها. كما لو كانت هي الرغبة في تأكيد أن رئيس جمهورية مصر القادم، ليس مجرد المواطن/ عبد الفتاح السيسي، لكنه رجل المؤسسة العسكرية، الذي وهبته للدولة المصرية، ليكون سيدها الجديد. الحقيقة التي تتضح من الرؤيا البانورامية للمشهد المصري طوال سنة عقود، هو أن ما حدث في 3 يوليو 2013، من طرد الإخوان المسلمين من كراسي الحكم، لم يتم بموجب رغبة المؤسسة العسكرية وحدها، معها إرادة عشرات الملايين الذين خرجوا يطالبون المؤسسة العسكرية بالتدخل لإسقاط "حكم المرشد"، لم يتحقق هذا إلا لأنه متوافق مع السياق الذي تسير فيه الدولة المصرية عبر ستة عقود، وقد أسفرت محاولة الخروج عليه في 25 يناير 2011، عن نتائج مأساوية، أدت ليس للتهديد بضياع البلاد، ولكن للشروع بالفعل في رحلة الضياع. هكذا لا يمكن اعتبار عملية طرد الإخوان انقلاباً، فالانقلاب خروج على السياق، أو قلب لاتجاه المسيرة، وليس كما هو حادث بالفعل، حيث إرادة مصرية شاملة لأغلبية الشعب الكاسحة، بصحبة سائر مؤسسات الدولة المصرية، كلها تدفع لأن تأخذ الأمور مسارها الطبيعي، الذي تمليه حقائق الواقع على الأرض، والتي يستلزم لتغييرها، ثورة تبدأ من أسفل، تتغير فيها الأفكار والعلاقات والمفاهيم والسلوكيات. ربما ما حدث من حراك، يكون بداية هذه الرحلة المرتجاة، نحو ثورة اجتماعية ثقافية، تجعلنا مؤهلين لأن نخرج من سياق انقلاب يوليو 1952، إلى سياق آخر متوافق مع العصر ونظمه وقيمه ومعاييره.
نقلا عن ايلاف