ما الذنب الذى اقترفه الشاعر عمر حاذق لكى يحكم عليه بالحبس مع النفاذ لمدة عامين، لا ندرى ما سوف يلقاه خلالهما ولا ما سوف يكون لهما من أثر فى حياته كإنسان وحياته كشاعر.
عمر حازق قبض عليه، كما نمى إلى علمى، بتهمة المشاركة فى مظاهرة ضمت عشرة أشخاص يعملون مثله فى مكتبة الإسكندرية، ووقفت أمام المحكمة التى كانت تنظر قضية خالد سعيد وتحاكم رجال الشرطة المتهمين بقتله فأسرع عدد من الجنود والضباط يحاصرون المتظاهرين الذين خالفوا قانون التظاهر ويفرقونهم بخراطيم المياه، ثم بقنابل الغاز التى رد عليها بعض المتظاهرين بالحجارة فأصيب شرطى وتحطم زجاج سيارة، وقبض على المتظاهرين ومنهم عمر حاذق الذى شارك فى المظاهرة كما سمعت، ولم يشارك فى الاشتباك، لكنه حوكم مع زملائه فحكم على كل منهم بالحبس عامين، وقد أيدت هذا الحكم محكمة استئناف الإسكندرية، فلم يعد أمام الشاعر إلا أن يمتثل لحكم القضاء، ولم يعد أمامنا إلا أن نسأل من جديد: ماذا جنى عمر حاذق لكى يدفع من شبابه ومن مستقبله هذا الثمن الفادح؟!
لكن السؤال لن يفهم جيداً إلا إذا قلت لكم إننى أعرف هذا الشاعر جيداً. لا أستطيع بالطبع أن أكون شاهداً على ما حدث منه أو من غيره فى المظاهرة، لكننى علمت ممن أثق فيهم كل الثقة أن عمر حاذق لم يشارك إلا بإعلان رأيه، ولم يدخل فى الصدام الذى وقع بين الشرطة والمتظاهرين.
لكننى أترك هذا للسلطات المختصة وأعود لأقدم شهادتى عن عمر حاذق الإنسان والشاعر. وأقسم أن أقول الحق ولا شىء غير الحق.
شاب لم يتجاوز الثلاثين إلا بسنوات قليلة، مهذب خجول، لا يطلب شيئاً ولو كان من حقه ممن يعرف أنهم قادرون على الإجابة، لكنه لا يتردد فى التعبير عن رأيه ولو كان يعلم أن رأيه هذا يمكن أن يعرضه للأذى. ثم إنه شاعر حقيقى له لغته وله طابعه الخاص الذى يؤهله لأن يكون صاحب تجربة شعرية متميزة، وقد دعيت للتحكيم فى إحدى المسابقات الشعرية التى تقدم لها قبل سنوات فكان هو الفائز بالجائزة الأولى بالإجماع.
هذه الموهبة التى يتمتع بها عمر حاذق هى التى دفعته للمشاركة فى المظاهرة التى ضمت معه، كما يقال، عدداً من العاملين فى مكتبة الإسكندرية، لأن الثقافة التى يشتغل بها هؤلاء ليست مجرد مكتب أو وظيفة أو وسيلة للقمة العيش، وإنما هى قبل كل شىء ضمير لا يتسامح مع صاحبه. لأنه ضمير عارف مثقف قادر أكثر من غيره على التمييز بين الصواب والخطأ، فإن علم أن مواطناً اسمه خالد سعيد لفقت له التهم وسلط عليه العذاب حتى صعدت روحه إلى بارئها لم يسكت ولو كان القتلة قياصرة وأباطرة، وها هو صوته يعلو بنشيده الذى أهداه لخالد سعيد وللشاعر الإسبانى جارسيا لوركا الذى اغتاله زبانية فرانكو:
ألوذ بصمتى طويلاً فمعذرة يا بلادى/ دمى فوق أسفلتك الآن يمشى/ أغنى لكيلا يخاف هنا وحده/ وأضم جناحى مختبئاً فى الغصون.
اتركوا جثتى يا جنود/ أخاف على حلمى يا فتاتى اهربى من نوافذ قلبى/ واغفرى يا جميلة أنى أحبك لكننى مولع بالبلاد/ اذهبى أنت إنى مع الصبح قد لا أكون!
وكما صرخ عمر حاذق فى وجه قتلة خالد سعيد، صرخ فى وجه قانون التظاهر لأنه يحرم المصريين من ممارسة حقوقهم التى يكفلها لهم الدستور والمواثيق الدولية.
الدستور الذى أعطيناه أصواتنا قبل شهر واحد ينص فى مادته الثالثة والسبعين على أن «للمواطنين حق تنظيم الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات وجميع أشكال الاحتجاجات السلمية غير حاملين سلاحاً من أى نوع، بإخطار على النحو الذى ينظمه القانون». فإن كان عمر حاذق ورفاقه قد تظاهروا دون إخطار فقد خرجوا على شرط شكلى ليمارسوا حقاً دستورياً ويؤدوا واجباً أخلاقياً يتردد البعض فى أدائه حتى لا يقعوا تحت طائلة الشرط الشكلى ويتعرضوا لما تعرض له عمر حاذق.
ونحن جميعاً نعرف الأسباب التى أملت على السلطة إصدار قانون التظاهر ونفهمها. فقد أسقط المصريون جماعة الإخوان التى خرجت من السلطة لتمارس الإرهاب، وهو حرفتها الأصلية، بواسطة المظاهرات التى تفخخها وتطعمها بقتلة محترفين ملثمين يحملون البنادق والخراطيش وزجاجات المولوتوف ويسلطونها على رجال الشرطة وعلى من يعترضهم من المواطنين، فى ظروف اختلط فيها الحابل بالنابل والثائر بالبلطجى. هذا نعرفه ونفهمه ونتفق مع السلطة فى وجود حاجة ماسة لتنظيم ممارسة الحق الدستورى على النحو الذى يحمى الدستور من أن يتخذ مطية للإرهاب، لكننا لا نفهم أبداً أن تستغل هذه الحاجة لمصادرة الحق حتى لا يساء استعماله.
كل حق معرض لأن يساء استعماله. الحرية قد تتحول عند البعض إلى فوضى، والملكية إلى استغلال. والدين يساء تفسيره فيتحول فى بعض الأحيان إلى عنف وإرهاب. وعندما هتف الخوارج فى وجه علىٍّ، كرم الله وجهه: لا حكم إلا لله! أجابهم علىّ: كلمة حق يراد بها باطل! وعندما سئل الإمام محمد عبده عن رأيه فى تحريم الصور والتماثيل لأنها مظنة العبادة! قال للسائل: إن لسانك أيضاً مظنة الكذب فهل يجب ربطه؟!
ونحن نعرف أن أجهزة الأمن مستهدفة لأن الدولة مستهدفة من حيث إنها سلطة تتصدى للإرهاب، ومن حيث إنها نظام تسعى هذه الجماعة الإرهابية لإسقاطه لتقيم على أنقاضه دولتها الدينية وخلافتها العثمانية، وباستطاعتنا إذن أن نفهم موقف أجهزة الأمن من المظاهرات كلها، وسوء ظنها بما يمكن أن يحدث فيها، لكننا نجد من واجبنا أن نطالب هذه الأجهزة بقدر أكبر من ضبط النفس، والتمييز بين مظاهرة يشارك فيها بعض المثقفين ليعبروا عن رأيهم فى قضية من القضايا، ومظاهرة أخرى يشارك فيها الإرهابيون ويحرقون فيها الكنائس وأقسام الشرطة، ويغتالون الجنود والضباط والسياح.
لقد كانت الثورة المصرية المجيدة، ثورة يناير وثورة يونيو، فرصة استعاد فيها رجال الأمن ثقة المصريين فيهم وتقديرهم لتضحياتهم، ولن يكون من الحكمة أبداً أن يفقد هذا الجهاز الذى نحتاج إليه ونعتز به ما اكتسبه خلال السنوات الأخيرة من ثقة المصريين والتفافهم حوله وتقديرهم له. أشير هنا للحوادث المؤسفة التى وقعت فى الأسابيع الأخيرة وقرأنا أخبارها ورأينا صورها، وأسفنا أشد الأسف لأنها تنال من أجهزة الأمن أكثر مما تنال من ضحاياها الذين نرى أنفسنا فيهم، ويذكرنا ما يصيبهم بما يصيبنا. وهذا ما عبر عنه الشاعر المجيد حسن طلب فى قصيدته «كلنا خالد» وفيها يقول:
سيبقى روحك الخالد.
وتنفضح العصابة من زبانية النظام ومن رجال الأمن، من نالوك غدراً بالدم البارد.
فسهم المجرمين وإن أصاب الأبرياء بزورهم لنحورهم عائد.
سألناهم فما باحوا،
وراحوا يهمسون إلى القضاة، ويطمسون شهادة الشاهد!
أريد أن أقول هنا إن ما قاله حسن طلب هو ما قاله عمر حاذق، وهو ما أقوله أنا أيضاً معهما، ويقوله كل مثقف حقيقى. لأن المثقف الحقيقى ضمير. وهذا الضمير هو سلاح المثقف وهو سلطته التى يمارسها حتى وهو يحاكم كما حوكم سقراط، وكما حوكم الحلاج، وجاليليو، وطه حسين، ونصر حامد أبوزيد، ويمارسها حتى وهو خلف القضبان!
نقلا عن المصري اليوم