لم تذكر الحدوتة المصرية شيئا عن الحماقة التي ارتكبها الهدهد فأغضبت منه سيدنا سليمان تلك الغضبة الهائلة، كل ما نعرفه هو أنه استدعاه إلى قصره وفي وجود كل الطيور قال له وهو يرتعش من الغضب: اسمع أيها الهدهد.. يبدو أنني دللتك أكثر من اللازم ولذلك سأعيدك إلى حجمك الطبيعي.. لم أعد قادرا على تحمل حماقاتك، ولذلك لا بد أن أعاقبك عقابا قاسيا لم أعاقب به طائرا من قبل.. اتفضل.. طر بعيدا عني، اذهب إلى أطراف الغابة وانتظر العقاب.. سوف أرسل لك «الفكر» لكي يسبب لك ألما ستعجز حتما عن تحمله.
شعرت الطيور بالخوف، لم يحدث أن سمعوا عن هذا العقاب من قبل، سأل بعضهم بعضا، ما هو هذا الفكر.. هل هو طائر أم حيوان مفترس أو هو نوع من التماسيح؟ أم هو ميكروب أو فيروس من ذلك النوع الذي يقضي على مناعة الجسم فيصبح عرضة لكل الأمراض؟
هذه الأسئلة وأكثر منها سببت عذابا هائلا للهدهد، وهو ما يذكرك بالمثل الشعبي «وقوع البلاء ولا انتظاره». كان الهدهد المسكين في حالة انتظار لعقاب لا يعرف كنهه ولا الآثار المترتبة عليه، كان نهبا لكل الأفكار المرعبة؛ ماذا سيفعل بي «الفكر».. هل سيقتلني أم أنه سيحدث بي إصابات بالغة تمنعني من الطيران؟ مرت أيام طويلة على الهدهد وهو فريسة لهذه المخاوف حتى سقط ريشه وأصابه الهزال، بل حدث له ما هو أسوأ من ذلك كله.. لقد عجز فعلا عن الطيران. وأخيرا حزم أمره وزحف على الأرض إلى قصر سيدنا سليمان وقال له وهو يتنفس بصعوبة: يا سيدنا.. لست هنا من أجل تخفيف العقوبة التي حكمت بها عليّ، أنا فقط أطالب بسرعة تنفيذها.. لقد قلت لي إنك سترسل «الفكر» ليعاقبني.. ولكنه لم يأتني حتى الآن.. أرجوك يا سيدنا أنا من خوف العذاب في عذاب.. أرجوك.. أرسله لي.
فابتسم سيدنا وقال له بلطف: لقد أرسلته لك بالفعل.. وحتى الآن في القرية المصرية عندما يصفون مريضا يعاني من هموم ثقيلة يقولون إن عنده «فكر» أي أن اللاوعي الجمعي عند المصريين يرى أن عملية التفكير هي مصدر للألم وسبب مباشر للمرض. ألا يذكرك ذلك بمقولة اللورد بايرون إن المعرفة هي شجرة الأسف. ولكن ما هي صلة التفكير بالمعرفة؟ الواقع أنه من المستحيل الوصول إلى المعرفة بغير تفكير، أي بغير إحساس بالهم والألم.
ولكن تعالوا للسؤال الذي لا سؤال قبله: ماذا نعني بكلمة التفكير؟ ما هي طبيعة العمليات التي تحدث داخل العقل وتنتج ما نسميه «الفكرة»؟ من الشائع أن كل الناس تفكر، فلماذا لا نصف الناس جميعا بأنهم مفكرون، وهو الوصف الذي يطلقه المذيعون والمذيعات على معظم ضيوف برامجهم. هم ليسوا فئة أو طائفة بل هم نسخ بالآلاف من كتاب واحد. هم أشبه «بالمعددة» التي كانت تشحن الناس بالأحزان في المآتم والجنازات (أميركا ها تموتنا.. إسرائيل ها تموتنا.. أوروبا ها تموتنا.. العالم كله ضدنا). أريدك أن تتأمل ملامحهم ونظراتهم، هم ليسوا مهمومين بشيء. هم لا يعرفون ألم التفكير. حديثنا لم ينته.
نقلا عن الشرق الاوسط