قد لا نجد فى كتب التاريخ الحديث ما تملكه ذاكرة المعمر الفلسطينى، رجب التوم، وما ترويه تجاعيد وجهه من حكايات عاشها خلال 125 عاماً، شهد فيها 5 حقب تاريخية، بداية من عهد الدولة العثمانية (التى خدم جنديا فى جيشها)، ومروراً بالانتداب البريطانى، والحكم المصرى والاحتلال الإسرائيلى، وحاليا حكم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لقطاع غزة.
ولا يجد المعمر "التوم" صعوبة فى رواية قصة حياته لكل من يزوره بمنزله فى بلدة بيت لاهيا شمالى القطاع، فذاكرته "الحديدية" تسعفه دائماً فى إيجاد إجابة دقيقة لكل سؤال يُطرح عليه. وبات "التوم" مرجعاً لمعرفة أنساب العائلات، فكثيراً ما يقصده فلسطينيون لمعرفة أنسابهم وأصول عائلاتهم من أجل قضايا تتعلق بالمواريث.
مراسل وكالة الأناضول التقى بالمعمر الفلسطينى، الذى صادقت وزارة الداخلية فى غزة، يوم 13 فبراير الجارى على تعديل تاريخ ميلاده من 1 يناير1902 إلى 1 يناير1889، بذلك أكبر معمر فى فلسطين، وقبل أن يروى التوم قصة حياته، رحب بفريق الأناضول على طريقته الخاصة، فأنشد "موالاً شعبياً" فور وصولنا. وقال: "أهلا وسهلا يوم جيتون (جئتم إلينا) وشرفته المنازل حين جيتون، ويوم جيتون زرعت الدرب أهلا ومية (مائة) مرحبا".
وفى عودة سريعة إلى الحقبة العثمانية، التى ولد خلالها المعمر "التوم"، أفاد بأنه تم استدعاؤه للخدمة العسكرية فى الجيش العثمانى، وخدم فى لبنان عندما كان عمره 30 عاماً كأحد جنود دوريات الحراسة.
واستمر المعمر الفلسطينى ضمن صفوف الجيش العثمانى خمسة أعوام، شارك خلالها فى الحرب العالمية الأولى (1918:1914)، والتى انتهت بتفكك الإمبراطورية العثمانية، وانسحاب جيشها من فلسطين عام 1918، ليعود "التوم" بعد ذلك إلى قطاع غزة ويتزوج بزوجته الأولى التى طلقها بعد خمسة أعوام؛ لأنها لم تنجب له. ومع بداية حقبة الانتداب البريطانى لفلسطين، توجّه "التوم" للعمل فى حقل البناء بمدينة حيفا على ساحل شمال فلسطين التاريخية.
وتخلل فترة عمله فى حيفا، زواجه الثانى من زوجة أنجبت له 9 أبناء، هم 5 إناث و4 ذكور، يتبقى منهم على قيد الحياة ابنة وأشقاؤها الأربعة، أصغرهم فى الـ60 من العمر.بعد خمسة أعوام من العمل فى حقل البناء، عاد "التوم" إلى مهنته الأساسية كمزارع، وانتقل للعمل فى مدينة بئر السبع فى منطقة النقب جنوب فلسطين التاريخية، حيث اشترى قطعة أرض وزرعها بالقمح والشعير والذرة، وكان ينقل محصوله فى كل موسم ويبيعه فى أسواق غزة، واستمر "التوم" فى عمله كمزارع حتى انتهاء فترة الانتداب البريطانى، وقيام دولة إسرائيل على أراض فلسطينية محتلة عام 1948، وهو ما يطلق عليه الفلسطينيون عام النكبة.
ولا ينسى "التوم" تفاصيل تهجير الفلسطينيين من قراهم ومدنهم على أيدى "العصابات الصهيونية المسلحة" عام 1948، حيث استضاف فى منزله ثلاث عائلات مهجرة من قرى ومدن قريبة من غزة حتى تم بناء مخيمات للاجئين الفلسطينيين.
وقال: "لم يتوقع اللاجئون أن ينتهى بهم الحال كما هو عليه اليوم.. كانوا يعتقدون أنها أيام معدودة وسيعودون بعدها إلى ديارهم، فقد احتفظوا بمفاتيح منازلهم، وكانوا يتسللون إلى المناطق المحتلة خلال ساعات الليل ويحضرون الثمار من أراضيهم".
وتابع بقوله، "خيبت الجيوش العربية آمال الفلسطينيين فى حرب عام 1967، فقد حزم اللاجئون أمتعتهم استعداداً للعودة إلى قراهم ومدنهم المحتلة عام 1948، ولكن الجيوش العربية لم تصمد (أمام الجيش الإسرائيلى) إلا لساعات معدودة".
وبعد عام 1948 استمر "التوم" فى عمله كمزارع فى مدينة بئر السبع، حتى اعتقلته إسرائيل بعد سيطرتها على النقب، عندما كان ينقل حبوب القمح والشعير والذرة إلى غزة.
وعقب خروجه من المعتقل، بعد شهور، اشترى 20 دونماً (الدونم يساوى ألف متر مربع) فى شمال غزة وزرعها بالحمضيات والزيتون، ولا زال عدد من أحفاده يكملون مشواره فى زراعة الأرض.
وخضع قطاع غزة فى أعقاب نكبة فلسطين عام 1948 للحكم المصري، حتى بداية يونيو 1967، حيث احتلته إسرائيل التى هزمت الجيوش العربية خلال ما يعرف ب"النكسة".
وفى عام 1994، أعادت إسرائيل نشر قواتها فى غزة، حيث انسحبت من داخل المدن، مبقية سيطرتها على حدوده ومعابره، فى أعقاب توقيع اتفاقية أوسلو للسلام مع منظمة التحرير الفلسطينية، حيث تم تأسيس السلطة الفلسطينية، بقيادة حركة التحرير الوطنى الفلسطينى (فتح).
وقُدر للمسن الفلسطينى، أن يعايش حكم حركة "حماس" (الفائزة بغالبية مقاعد المجلس التشريعي) فى قطاع غزة، منذ يونيو 2007، بعد معارك مسلحة مع حركة فتح.
ويقضى "التوم" يومه فى الصلاة والاستماع إلى القرآن الكريم، ونشرات الأخبار، ويصيبه حزن شديد عندما يستمع إلى أخبار تتحدث عن قتلى فى أى من الدول العربية، خاصة فى لبنان، التى خدم فيها ضمن جنود الجيش العثمانى، بحسب قوله.
ولا يتناول المسن الفلسطينى من الأطعمة سوى "زيت الزيتون والخبز والحليب ولحم الأرانب والفواكه والخضار"، ويبتعد كلياً عن اللحوم الحمراء التى لا يثق بها، ويفتخر "التوم"، الذى يتمتع بصحة جيدة، بأبنائه وأحفاده الذى وصل عددهم إلى قرابة الـ370 حفيداً، وأسعد أوقات حياته هى تلك التى يجتمع فيها مع أحفاده، ويحكى لهم حكاياته التى ربما يستمر فى رواية الواحدة منها لأيام.
ويسعى أحفاده إلى إدخال جدهم ضمن موسعة "جينتس" للأرقام القياسية على اعتبار أنه أكبر معمر فى العالم، ولا يتمنى المعمر الفلسطينى سوى أن تعود الحقبة العثمانية إلى فلسطين.
ويختم حديثه بقوله إن "الأتراك كانوا مثل الذهب.. وأمنيتى الوحيدة قبل أن أموت هى رؤية جنود الدولة العثمانية يعودون إلى فلسطين ليحكموها ويعيدوا إليها الاستقرار والسلام".