هو الاحتياج المادي والسيكولوجي للشعب المصري الآن، إلى بطل معاصر يُخرج مصر من حالة الفشل والضياع. وإلى بطل تاريخي، نهرب من تردي الواقع، إلى عصره الذهبي وأمجاده، وراء ما نشهد الآن من رفع صور عبد الفتاح السيسي وعبد الناصر جنباً إلى جنب. بالطبع بجانب فعاليات فلول العصر الناصري، مرتزقة الميكروفونات والشعارات الرنانة خالية المضمون، هؤلاء الذين يعيشون في عالم مواز لعالمنا الواقعي، الذي يفضح عمق الفشل وهاوية التخلف المصري. نجد الآن ذات الشخصيات مدعية المدنية، والتي روجت للتحالف مع الإخوان لإنجاح محمد مرسي، هي التي تستدعي تاريخ عبد الناصر، لتفسد به حاضرنا ومستقبلنا، كما سبق وفسد ماضينا. .
من يشبهون السيسي بعبد الناصر، ربما كانوا يقصدون تمجيد السيسي، رغم أنهم هكذا يسدون أبواب الأمل في وجوهنا، ويعدوننا بعصر من الحماقات والمغامرات وخراب الديار؟!! هي قمة الجسارة في التزييف أو فرط سذاجة، أن نخلع لقب "الوطنية" على جمال عبد الناصر. ذلك الذي ألغى علم مصر التاريخي، وحذف اسمها من الخريطة، بل والوارد في الكتب المقدسة، وخلع عليها اسماً بلا معنى هو "الجمهورية العربية المتحدة"، وأطلق عليها تسمية "الإقليم الجنوبي". .
ربما يحق للعروبجية اعتبار هذا إنجازاً يستحقون عليه تهنئة بعضهم البعض، لكن أن يخلع على هذه التوجهات والممارسات صفة "الوطنية"، فهذا ضرب من البلاهة في أفضل التقديرات وأكثرها تهذباً!! موجة المزايدة والترويج الإعلامي لذكرى عبد الناصر وأفكاره وتوجهاته، لست أدري إن كانت بمبادرة من الإعلاميين أنفسهم، وفقاً لقناعاتهم الفكرية، أم هي بأوامر عليا، لتمرير تنصيب عسكري رئاسة الجمهورية. . ما أشبه إعلاميونا بقطيع كلاب حراسة، تدفع الأغنام التي تحرسها، إلى أي اتجاه يشار به إليها، ولو إلى الهاوية!!. .
نجد إعلامياً فذاً، يستضيف في برنامجه م/ عبد الحكيم جمال عبد الناصر، ليدلنا على طريق الناصرية، ما يعني تلقائياً استئناف مسيرة نكسات وخيبات زعيم الأمة العربية الراحل. الطريف أن م/ عبد الحكيم عبد الناصر، لا تعجبه اتفاقية كامب ديفيد، التي أعادت الأرض المصرية التي ضيعها أبوه. حقاً "شر البلية ما يضحك"!!. . الناصرية هي فن تصوير الهزائم وكأنها انتصارات، والهوان والاستهزاء بنا من العالم، كما لو كان مجداً وكرامة وعزة. هي التطبيق الاشتراكي الذي يعمم الفقر المدقع على الجميع. وهي تحويل سياسات الحكم إلى مغامرات حمقاء، واعتبارها استقلالاَ وطنياً. ارتفاع الموجة الناصرية الآن، لدى كل من أنصار السيسي وحمدين، دليل أصالة هذا الشعب. فنادراً ما تتمسك وتفتخر الشعوب بخيباتها ووكساتها التاريخية. هو تقدم لابأس به، أن نخرج من هاوية حسن البنا، إلى مستنقع عبد الناصر. . المتوقع بعد سنوات أن ننتقل إلى صحراء حسني مبارك. .
العجيب في شعوب الشرق الأوسط، هو سهولة استشراء أفكار مدمرة، مثل أفكار حسن البنا وجمال عبد الناصر. ثم صعوبة اقتلاعها بعد ذلك، رغم ما تسببه من خراب مادي في حياة هذه الشعوب. تلقى عبد الناصر وأصحابه هزيمة وبيلة في الفالوجا بفلسطين من العصابات الصهيونية، فيما سمي نكبة عام 1948، فقرر بعدما عاد لمصر خائباً، أن يكون زعيم مصر والأمة العربية، فكانت نتيجة نضاله الميمون أن أتى بالعصابات الصهيونية، التي صارت "جيش الدفاع" الإسرائيلي، لتحتل سيناء وتصل حتى قناة السويس، ولو شاءت العبور للقاهرة لفعلت، وقد شبه الزعيم الملهم والمظفر مصر يومها، كما لو كانت شخصاً أطاح به الترام.
الآن نرجو ألا يأتي بهم من يحاولون التشبه به الآن إلى أسوان، ما لم يسبقهم تنظيم القاعدة، تحقيقاً حلم الخلافة الإسلامية. تعبير "عبيدة البيادة" الذي صكه الإخوان المسلمون هذه الأيام، بغير حق وعلى خلاف تام مع الواقع، ينطبق حرفياً وليس معنوياً فقط، على الجيل الأقدم من الناصريين، الذين وطأت أحذية عبد الناصر ورجاله على أعناقهم بالفعل، وليس من قبيل المجاز. هؤلاء هم من يزيفون وعي الشباب الذي لم يعاصر عهد الناصر وقمعه الرهيب!!
ما يسميه الناصريون "انحياز عبد الناصر للفقراء"، كان هجمة بربرية على الأغنياء، قصد منها قص أجنحة كبار الشخصيات والعائلات، التي كانت عماد الحياة السياسية والاقتصادية قبل الثورة، في معرض خطة مغامري يوليو، لتركيع المجتمع والشعب المصري، وقد ترتب عليها، نهب أموال الأغنياء ومجوهرات القصور الملكية، من قبل هؤلاء المغامرين الصاعدين للسلطة من أسفل ووسط السلم الاجتماعي المصري. أما الفقراء فقد ازدادوا بسياسات عبد الناصر فقراً.
إذ صارت الطبقة المتوسطة أجيرة ورهينة لدى مؤسسات دولة عبد الناصر، وتدهور حالها إلى الدرك الأسفل للمجتمع. أما الفقراء الأقحاح فلقد تعاظمت مأساتهم، بسبب عقم الاقتصاد، وتبديد الثروات المصرية على حروب ومغامرات عبد الناصر ومؤامراته الثورية، في المنطقة العربية وفي أنحاء أفريقيا وآسيا. لعلم من لا يعلم من الأجيال الجديدة، ظل عبد الناصر في معرض سعيه ليكون إمبراطور العرب، يصف الدول الملكيات العربية بالرجعية، وراح يحيك المؤامرات والدسائس، مبدداً ثروة مصر على المغامرين والأفاقين، باسم نشر الثورة، سعياً لقيام نظم ثورية تحل محلها. لكن ما حدث هو أن بقيت أغلب النظم الملكية حتى الآن، تتقدم نسبياً بشعوبها، وهي التي تقف بجانب الشعب المصري الفاشل الآن في محنته. وقامت في دول أخرى نظم ثورية على النهج والمثال الناصري. أنتجت علي عبد الله صالح وصدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافي. وها نحن نرى ما آل إليه حال شعوبها الآن. وتحت راية الحياد الإيجابي وعدم الانحياز إبان الحرب الباردة، عادى عبد الناصر الغرب، وارتمى في حضن الاتحاد السوفيتي، ليصل بمصر إلى هزيمة 1967 الوبيلة، وينهار الاتحاد السوفيتي، وتلتحق دول أوروبا الشرقية بالغرب وحزب الناتو. كان عبد الناصر رجل السياسات والرهانات الخاسرة بامتياز. أظننا نذكر جميعاً في أوبريت العرائس "الليلة الكبيرة"، رائعة صلاح جاهين، مشهد ذاك المنتفخ الكرش، الذي كان يخطب في الجماهير قائلاً: "حالاً بالاً سأصارع. أسد إنما إيه متوحش. وها خللي وجهه شوارع. تصقيفة ياناس مايصحش"، ثم لايلبث أن يرتمى على ظهره، فور أن يتقدم نحوه الأسد. . هكذا بالضبط كان بطل العروبة الزعيم الملهم جمال عبد الناصر!! الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي غير مصدقين لرفض الشعب المصري لحكم الإخوان وأيديولوجيتهم، وأن ما حدث في 3 يوليو 2013 هو انقلاب جذري في موقف الشعب من هؤلاء، وليس مجرد انقلاب مجموعة عسكرية على الحكام الشرعيين، ليسير الحكام الجدد بعدها، على ذات المنهج الذي سبق وأن قامت عليه ثورة 25 يناير. .
ظاهرياً يبدو عدم تصديقهم هذا موقفاً عدائياً من الشعب المصري، لكن من يتأمل الوضع السياسي الحالي في مصر، يصعب عليه تبين ملامح أي جديد حقيقي. فالوضع المصري فكرياً وعلاقاتياً مازال بذات الركود، ويحمل ملامح سائر البلايا القديمة والأقدم. . تبدو مصر في هذه المرحلة وكأنها تتجرع ما سبق وتقيأته، وما مضى عليه الزمن حتى تقدد وتعفن. .
لقد كان الإخوان بالنسبة للغرب يمثلون الجديد بالمنطقة، رغم أنه بالفعل بديل كارثي!! الحقيقة التي علينا مواجهتها، أن المجتمع المصري تستشري فيه أوبئة وفيروسات مضادة للحداثة، وبالتالي لم يسفر الغضب والنقمة على الواقع المصري المتردي أفكاراً جديدة منفتحة على العالم وعلى قيم العصر. فكان أن ثرنا ونحن نحمل ونتبنى ونقدس، ذات مقومات تخلفنا طوال العقود بل والقرون الماضية. ومازال الأمر على ما هو عليه، حتى بعد ثورتين خلال ثلاث سنوات. . فهل تحمل لنا الأيام، أو نحمل نحن لها أملاً، في الشفاء من تلك الأوبئة، أو أنها قدرنا، الذي يتمكن مع الوقت منا ويتفاقم؟!!
kghobrial@yahoo.com
نقلا عن إيلاف