الأكثر شيوعًا أن يرى الناس الإرهابى كسيكوباتى (مريض اجتماعيًا ونفسيًا، لا يحس بالذنب، يكرر فعلته ولا يندم على الضحايا، لا يؤرقه الدم، بل يثيره ويشبع غرائزه الحيوانية)، أو كمتطرف دينى يلعب بالسياسة وتلعب به، سواء كان منتميا (لأنصار بيت المقدس) أو غيره، كأنه انتظر بشغف اللحظة المناسبة للصراع فى مصر لكى يبدأ رحلاته الانتحارية، ليشبع لذة الكرّ والفر ورؤية آثار أفعاله على شاشات التليفزيون، وعلى صفحات الصحف.
إذا تفحصنا الإرهابيين كأفراد، فسنرى دوافع شخصية لدى كل منهم، تختلف من واحد للآخر، مع توحد الهدف السياسى الأمنى للآخر، الذى انتمى صاحبه للقاعدة أو أى من المنظمات الإرهابية، عمومًا هناك استخدام واعٍ للقوة المُفرطة على مستوى الوعى التام، وأيضًا على مستوى الشعور والإحساس الخفى، بأن طريق الجنة مفروش بالجثث والدماء والأنقاض، وأن الهدف (كسـر الانقلاب مثلاً) سيتحقق لا محالة، بمعنى إلغاء التفكير العقلانى بأن محاربة الدولة بجيشها وناسها أمرٌ مستحيل، لأن أمر النصر فى ذهنيتهم، خاصةً بعد نجاح (الإخوان) فى الوصول إلى السلطة بعد انتظار طال ٨٢ سنة، هذا الأمر يضاعف من أملهم فى النصر، والوصول إلى هدفهم «الدينى» و«السياسى»، مع الاعتبار لكل الظروف المحيطة، لأننا شئنا أم أبينا نعيش فى حضن العراق بكل تفجيراته وانقساماته، سوريا بكل ضراوة حربها الأهلية، حماس بكل غطرستها، إسرائيل بكل حربها الاستخباراتية ورغبتها الجمة فى رؤية مصر تتهاوى تماما تحت أنقاض الإرهاب.
الإرهابى يجد ضالته فى الدفاع عن الشرعية، فى رد هجمات الجيش المصرى القاسية فى سيناء، يجد أن انفعالاته ونفسيته يحفزها الصراع والعنف وتغذيها الأخبار العالمية وترويع الآمنين.
جاءت إلى العيادة امرأة مطلقة فى منتصف الثلاثينيات من عمرها، عانت من وحشية زوجها وضربه المبرح فى بيت الزوجية، صارحت طبيبها النفسى بأنها تعشق رؤية الدماء والجثث، وأن الانفجارات وأخبارها تسعدها إلى حد كبير. تأملتُ حديثها الذى أتى من بين قسمات وجهها التى لم تحرك ساكنا، كان وجهها قناعًا شديد الصلابة، حديدى الملامح والملمس، ثلجى النظرة، فهل يا ترى كانت هناك علاقة بينها وبين هؤلاء الإرهابيين ومن يناصرهم نفسيًا، وتركيبة جسدية وذهنية بعيدًا عن العقيدة والاتجاه السياسى؟!
من هذه القصة نستطيع أن ندرك أن الإحباطات على المستوى الشخصى (لا زوج، لا عمل، لا مال، لا حماية) فى مقابل المستوى العام للعمل العنيف فى مصر (لا كرسى الرئاسة، خطر القتل أو الاعتقال، عدم بلوغ الهدف أو الاقتراب منه، مضى الآخر فى طريقه رغم كل تلك التفجيرات ورغم كل هؤلاء الضحايا).
بمعنى أن (١) هناك موقف يعانى فيه الشخص من آثار الحاضر المُعقد والماضى المشحون، هنا تنشأ اتجاهات داخلية فى العقل الباطن تتجه نحو العدوانية من الممكن إشعالها بموقف سياسى (الاستفتاء- الدعوة لانتخابات الرئاسة أو أى موقف آخر).
العامل (٢) هو أن الشخص يثار من أى موقف غير سياسى، أو غير عنيف، فيدخل فى مسارات سياسية، ونجد مجموعة من طلبة جامعة القاهرة (كلية الهندسة تحديدًا) غير المسيسين داخلهم ضيق وغضب وإحباط، وليست لهم أى دعوة أو شأن بالسياسة، يجتمعون ليشاهدوا الأحداث، وفجأة يغضبون تجاه مشهد مركبات الشرطة والدخان وصوت طلقات الخرطوش وغيرها، ويتحولون إلى مجموعة من الدهماء المُحطمين لكل شىء دون هوادة.
وجدت بعض الأبحاث أن لعب دور الضحية أثناء وبعد فض اعتصام رابعة تحديدًا (أثناؤه بالحديث عن فقدان كرسى الحكم، لكن دور الضحية هنا كان متضخما بالأمل وتتضمنه عدوانية شديدة تجاه المعتدى، بعده بالعويل والغضب وإلقاء النفس إلى التهلكة، بحثًا عن أكبر عدد من الجثث وتصويرها، وأكبر عدد من المصابين والعدد الأضخم من المعتقلين)، لعب دور الضحية هنا استفادوا منه إعلاميا ودوليًا بشدة.
لعب دور الضحية على المستوى الشخصى له رائحة الاستمتاع بالألم، يكون من ضمن مكوناته الرعب الفظيع من (العدَمية)، هلع أن تفنى جماعة الإخوان، ولا يبقى منها إلا ما يتطاير فى الهواء من رائحة الدخان، أو من تاريخ مكتوب لا يقرأ إلا لُماما.
إن الأحداث التى تكون فيها التضحية مُجسدة (فض الاعتصامات كثيرة العدد) ولا يذكر من الأحداث هؤلاء الذين يموتون ميتة بشعة فى رفح الأولى والثانية، بنى سويف، وغيرها، ورؤيتها على أنها عمليات جهاد ومقاومة ضد العدو.
هناك طرفان غير متساويين فى الكثافة، والتدريب، والقوة، وإن كانت العناصر المتطرفة الدينية قد اكتسبت استراتيجيات جديدة وسلاحا متطوّرا منه (أسلحة مضادة للطائرات بكامل أطقمها).
إن العامل الفردى فى القتل ورؤية الدماء، مما يسميه البعض فى المواجهات (شهوة الدم)، فكما القنص فى الغابة، إذا ما صاد طرف الآخر وانفجرت دماغه وانبثقت الدماء فى كل مكان، قتل فى نفس اللحظة خمسة آخرون (تلقائيًا)، وبحركة تلقائية فيها Kick تلك النشوة الحيوانية المفاجئة، بصرف النظر عن الزى أو السلاح أو المكان، ولهذا عوامل بيولوجية نفسية واجتماعية وأخرى تتبع علم النفس الجنائى، مولدة كل النظريات التى تمكننا من فهم العنف الحالى، وهو ليس بادئًا فى ٢٥ يناير ٢٠١١، لأنه كان عميقًا ممتدًا غائرًا فى بطن المجتمع، قاسيًا (على سبيل المثال لا الحصر: مذبحة سائق المقاولون).
إذن فالشخصية فى تفاعلها مع «الموقف»- أيًا كان- فى مواجهة فى الشارع، فى غرفة العمليات، فى طقوس تحضير القنبلة، فى الاستمتاع اللذيذ برؤية الضحايا وذويهم فى نشرات الأخبار.
إن هؤلاء القنابل المتحركة (التى تصل إلى ٧٥٠ كجم)، سريعة شديدة الانفجار، فإن هناك عشقا مع سلاح نرجسية لإثبات الوجود والحياة بسرقتها من الذين يموتون لأنهم أعداؤهم حتى لو كانوا من «الأبرياء».
kmfadel@gmail.com
نقلا عن المصري اليوم