الأحد الـسادس عشَر من فبراير ٢٠١٤م، تحدثنا فى المقالة السابقة عن حكم الأباطرة الثلاثة أبناء «قسطنطين الكبير»، وحكم «چوليان المرتد» الذى اضطهد المسيحيِّين وارتد إلى الوثنية محاولًا نشرها مرة ثانية، وأخيرًا «چوفيان» الذى ألغى كل أوامر «چوليان» وأعاد البابا «أثناسيوس» من النفى إلى كرسيّه بالإسكندرية.
وقد تأثر كرسى الإسكندرية فى مِصر بالفترة السابقة تأثرًا شديدًا، فكما ذكرنا سابقًا أن كنيسة الإسكندرية وقفت ضد البدع والهرطقات محافِظة على الإيمان. وقد كان أحد أبطالها البابا «أثناسيوس» (الـعشرين فى بطاركة الإسكندرية) الذى لاقى من الشدائد، ووُجهت إليه من التُّهم غير الحقيقية ما لا يُعد ولا يُحصى؛ بغرض إبعاده عن كرسى الإسكندرية، ولكنّ الله لم يسمح لهم بنجاح ما دبروه. وقد كان للأباطرة الذين حكموا الشرق تأثير على كنيسة الإسكندرية؛ فقد تدخلوا بعزل باباوات الإسكندرية ونفيهم، ووضع آخرين بدلًا منهم مؤيَّدين بقوة الجنود الرومان.
قُسطَنطِيوس الثانى والبابا أثناسيوس:
مال قُسطَنطِيوس الثانى بن قسطنطين الكبيرـ وكان هو حاكم الشرق- نحو الأَريوسيِّين وناصَرهم على الأرثوذكس، فكان نصيبهم اضطهادات مريرة فاقت فى بعض الأحيان اضطهادات الوثنيِّين.
فقد عزل «قُسطَنطِيوس الثاني» البابا «أثناسيوس»، وعيّن مكانه آخر يُدعى «غريغوريوس الكَبادُوكى»، وهٰذا قد هجم على المصلين فى يوم «الجمعة العظيمة» مع الجنود بُغية قتل البابا «أثناسيوس»، إلا أن الرهبان والقساوسة حملوه خارج الكنيسة لتهريبه. فقتل الجنودُ المصلين بوحشية، وأحرقوا الكتب المقدسة، ونهبوا الكنائس، وقتلوا كثيرًا من الرهبان. وقد ازدادت الأعمالة الوحشية، حتى إن القديس أنطونيوس أبا الرهبان كتب إليه رسالة لوم على أفعاله، ولٰكنه لم يُبالِ.
وفى تلك الأثناء، أرسل «قُسطَنطِيوس الثانى» برسالة إلى والى مِصر ليضع حراسات على مدينة الإسكندرية، لئلا يدخلها البابا «أثناسيوس»، وإلا يُقتل. ولٰكنّ الشعب المِصرى رفض أن يكون له بطريرك آخر غير البابا «أثناسيوس»، الذى حين عاد إلى كرسيّه بعد مدة طويلة استقبله الشعب استقبالًا لا تستطيع كلمات أن تعبر عنه. وقال عن هٰذا القديس غوريغوريوس النَزِيَنزى: «إن القوم توافدوا من أنحاء المدينة على اختلاف نزعاتهم للقائه. وكان بهم من الوَجد والهُيام براعيهم ما جعلهم يطيرون سرورًا. وكان ازدحامهم أشبه بالنِّيل فى عز فيضانه».!
وبعد موت «قسطنطين الثانى»- الابن الأكبر «لقسطنطين الكبير»ـ الذى حكم الغرب، وانفراد «قُسطَنطِيوس الثانى» بالحكم، عاد لمناصرة الأريوسيِّين، ونفَى البابا مرة أخرى، وعيّن آخر يُسمى «جورجيوس الكَبادُوكى». وقد قام «جورجيوس» هٰذا بأعمال أكثر شرًّا من سابقه. فقد كانت المدة التى قضّاها فى الإسكندرية ما هى إلا اضطهادات جديدة للمِصريّين، منها أنه نفى ثلاثين أسقفًا من الإسكندرية بعد معاملة قاسية أودت بحياة كثير منهم. وتعددت مظالم «جورجيوس» حتى نفَر الشعب منه، وتركوا أماكن عبادتهم، وفضّلوا الصلاة فى المقابر عن الصلاة معه. وحين علِم بهٰذا، حرّض ضدهم، وأرسل من تتبعهم، وقتل كل من وجده. وظلت تلك الأعمال الوحشية التى تعرض لها المسيحيُّون فى مِصر فى أيامه دليلًا على قوة وصلابة الشعب المِصرى المدافع عن إيمانه. وظل البابا فى منفاه حتى موت «قُسطَنطِيوس الثاني» وتولِّى «چوليان».
وفى أيام «چوليان المرتد»، الذى رفض المسيحية، وارتد إلى الوثنية، فمع بُغضه الشديد للمسيحيِّين، إلا أنه كان يحمل كراهية أشد لـ«قُسطَنطِيوس»، فأمر بإلغاء كل الأوامر الصادرة ضد المسيحيِّين ورؤسائهم ليعود البابا لشعبه.
أما «جورجيوس»، فلشدة ما اقترفه من مظالم ضد المسيحيِّين والوثنيِّين أيضًا، قام عليه الوثنيّون، وقتلوه، وأحرقوا جثته وذرّوا رمادها فى البحر.
ولم تمر مدة وجيزة إلا وقام «چوليان» المناصر للوثنية بنفى البابا «أثناسيوس» مرة أخرى. ولٰكنْ مع ارتقاء «چوفيان» سُدَّة الحكم، أعاد بابا الإسكندرية إلى كرسيّه، ولٰكنها كانت مدة قصيرة إذ تولَّى «ڤالِنتينيان الأول» و«ڤالنس» حكم الإمبراطورية.
ڤالِنتينيان الأول (٣٦٤ ـ ٣٧٥م):
وُلد «ڤالِنتينيان» فى مدينة سيبالى بالقرب من المدينة التى تُعْرف الآن بـ«بلجراد» فى صِربيا. وانضم إلى قوات الجيش الرومانية تحت إدارة «قُسطَنطِيوس الثاني» و«چوليان» فى المقاطعات الغربية. إلا أن «قُسطَنطِيوس» فصله من الخدمة العسكرية لاتهامه بإضعاف العمليات العسكرية. ولٰكنه عاد مع الإمبراطور «چوفيان» الذى مات فى ٣٦٤م؛ فوقع اختيار القادة العسكريِّين والمدنيِّين الرومانيِّين عليه لحكم البلاد؛ وكان ذٰلك فى مدينة نِيقية (مدينة إغريقية قديمة تقع على الساحل الغربيّ للأناضول). ثم عيّن أخاه «ڤالنس» حاكمًا مساعدًا على المقاطعات الشرقية فى القسطنطينية، وتولَّى هو حكم المقاطعات الغربية، وكان مقره فى ميلان.
وتعرض مع بَدء حكمه للإغارات من القبائل الجرمانية على بلاد الغال، وفى أثنائها اندلعت ثورة فى الشرق من «بروكُوبيوس» ضد «ڤالنس». واختار «ڤالِنتينيان» أن يدافع عن المقاطعات الغربية ضد الغزاة، وأمكنه الانتصار عليهم بعد عديد من المعارك الحربية التى كادت أن تُودى بحياته. وظل معظم مدة حكمه حروبًا ضد الألمان، وفى بريطانيا، وفى الدانوب، وفى مواجهة الثوْرات فى المقاطعات الأفريقية.
وقد استطاع «ڤالِنتينيان الأول» أن يحمى الحدود الغربية للإمبراطورية من الإغارات بنجاح. وفى تلك المدة، عام ٣٦٧م، عيّن ابنه «جراتيان» ذا الثمانى سنين إمبراطورًا مساعدًا. وقد حقق فى فترة حكمه إنجازات عسكرية أتاحت له تأمين حدود الإمبراطورية. وأخيرًا مات فى عام ٣٧٥م بسبب غضب شديد انتابه وأودَى بحياته.
شخصية ڤالِنتينيان الأول:
وصفه بعض المؤرخين بأنه سريع الغضب جدًا، ظالم، قاسٍ، مسرع إلى سفك الدماء، لا يرفُق بالرعية. وقد أصدر أوامره بمعاقبة كل من اتُّهم بالخيانة أو اشترك هو والأعداء فى القتال أشد عقاب دون تحرٍّ أو إثبات؛ مما أدى إلى إلقاء التُّهم على المذنب والبريء. على أن البعض الآخر وصفه بتسامحه، وشجاعته، وتحمله المسؤولية، وأنه إدارى ناجح، ولم يضطهد الوثنيِّين أو الأريوسيِّين.
موقفه من الديانات:
لم يتدخل فى القضايا الدينية، ولم يتخذ موقفًا واضحًا مثل أخيه «ڤالنس» الذى انحاز إلى الأريوسيِّين بكل قوة. وألغى «ڤالِنتينيان الأول» مرسوم «چوليان» بمنع المسيحيِّين من التعليم. كما جدد أمر «قسطنطين الكبير» بالامتناع عن الأعمال القضائية أيام الآحاد. وأعفى المسيحيِّين من الاشتراك فى المصارعات.
وأصدر أمرًا بحظر تقديم الوثنيِّين الذبائح ليلًا. والبعض قال إنه أصدر القوانين التى تمنع الاجتماعات الدينية للهراطقة والوثنيِّين، ثم تراجع فيها بمراعاة الكهنة الوثنيِّين والحفاظ على امتيازاتهم، بل وزيادتها عما قُدم للمسيحيِّين. فبينما منع رجال الدين المسيحيّ من تلقى أى إرث من النساء المَسيحيات ما لم يكُن هٰذا الميراث يحق لهن، لم تكُن تلك القيود على الكهنة الوثنيِّين؛ فكان كثير التقلب فى قراراته.
ڤالنس (٣٦٤ ـ ٣٧٨م):
التحق «ڤالنس» بالجيش، وخدم مع الإمبراطور «چوليان» ومِن بَعْده «چوفيان»، وكما ذكرنا شارك أخاه حكم الولايات الشرقية. وقد بدا له حكم الشرق سهلًا فى بدايته، إلا أن المشكلات بدأت فى الظهور تِباعًا. فقد كان والد زوجة «ڤالنس» شخصًا يتسم بالطمع والوحشية والقسوة حتى قامت ثورة عارمة ضدهما عام ٣٦٥م بقيادة «بروكوبيوس» ـ أحد قواد الجيش المتقاعدين الذى نادَوا به إمبراطورًا وحظِىَ بتأييد واسع. وفى ٣٦٦م، التقت قوات «فالنس» و«بروكوبيوس» الذى تعرض لخيانة قواده فهرب، إلا أنه قُبض عليه وأُعدِم.
تأمين الإمبراطورية:
وبعد القضاء على الثوْرات، اتجه «ڤالنس» إلى تأمين إمبراطوريته من الإغارات التى تهدد الإمبراطورية من الشَمال وقد استتب له الأمر. ولٰكنه انشغل بالمشكلات التى تظهر بين الحين والآخر فى الشرق، ومنها مؤامرة «تِيودور الأنطاكىّ» عام ٣٧١م.
وقد حارب «ڤالنس» الفرس الذين احتلوا أرمينيا، والتقت الجيوش الرومانية والفرس فى العراق وانتصر «ڤالنس»، إلا أن استعدادات الحرب انتهت فى عام ٣٧٦م بعمل معاهدة سلام مع الفرس. وفى ٣٧٥م، بعد موت أخيه «ڤالنتينيان»، اعتبر نفسه الأغسطس الأكبر على ابن أخيه «جراتيان» فى الغرب.
ثم لم يلبَث قليلًا إلا وظهرت أمة تتارية من آسيا، وتسمى «الهون» (من المغول)، وقد هجمت على الغُوطيِّين الذين هربوا إلى الشرق طالبين الحياة فى أراضى المقاطعات الرومانية، فأذن لهم «ڤالنس» بالاستقرار فيها. إلا أن معاملة الحكام الرومان القاسية نحوهم ـ وبخاصة قلة الطعام الذى كانوا يحصلون عليه ـ أدت إلى ثورة بقيادة زعيمهم «فريتيجرن»، فحضروا بأعداد غفيرة عبر البلقان إلى «تراقيا». وبالرغم من صد هجومهم، إلا أنهم عادوا فى ٣٧٨م بقوة أكبر فى أدريانوبوليس (الآن بأدرنة- تركيا) حيث دارت معركة بينهم وبين «ڤالنس» الذى طلب من «جراتيان» ابن أخيه نجدته، ولٰكنه لم ينتظر، واشترك فى الحرب وقُتل عام ٣٧٨م.
أما عن سياسة «ڤالنس» الداخلية وتأثيرها فى مصر، فلنا فيها حديث جديد. وعن «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى...!
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع