الذين يعرفوننى عن قرب يعرفون مدى عشقى لسيدة الغناء العربى كوكب الشرق أم كلثوم إلى المدى الذى لا أنام فيه قط إلا وأنا أسمع صوتها تشدو بأغنية من أغانيها. وكل أغانيها رائعة.
أحد تلاميذى ممن يعرفون هذا العشق «اخترع» صورة تجمع بينى وبينها، ورغم أنى أعرف أن الصورة غير حقيقية إلا أنى أضعها فى مكان بارز فى بيتى بحيث يراها كل من يزورنى أو يجلس معى فى غرفة الاستقبال فى البيت. وما أظن أن كثيرين يعرفون علاقتها بجمال عبدالناصر.
بعد ثورة يوليو بأيام لاحظ عبدالناصر أن الإذاعة المصرية- على عكس عادتها- لم تذع أى أغنية لأم كلثوم فاستدعى رئيس الإذاعة فى ذلك الوقت- وأظن أن اسمه كان حماد- وسأله: مرت بضعة أيام لم تذع الإذاعة فيها أى أغنية لأم كلثوم.. لماذا؟
فرد حماد على جمال عبدالناصر قائلاً: يا افندم دى من العهد القديم.
فصمت عبدالناصر برهة وقال له: ما رأيك يا أستاذ حماد أن تهدموا الهرم الأكبر لأنه من العهد القديم؟!
يا حماد أم كلثوم هى الهرم الرابع.
وتحت اسم «الهرم الرابع» أقام معهد العالم العربى فى باريس أسبوعاً خاصاً بأم كلثوم عرض فيه حياتها من خلال صور عديدة عُلقت على جدران مكان العرض، وما أظن معهد العالم العربى شاهد إقبالاً مثل هذا الإقبال الذى شاهده أثناء الاحتفال بأم كلثوم.
نعم بحق لقد كانت «كوكب الشرق»؟
وأذكر هنا قصة سمعتها من الشاعر الكبير نزار قبانى بنفسه أنه ذهب يوماً إلى السفارة المصرية حيث كان يقيم- فى العراق أو فى سوريا آنذاك لست أدرى- وطلب تأشيرة دخول إلى مصر ورفضت السفارة إعطاءه التأشيرة، وأدرك أنه ممنوع من دخول مصر.
كان نزار قبانى بعد نكسة عام ١٩٦٧ قد نشر قصيدة رائعة وقاسية فى نفس الوقت بعنوان «هوامش على دفتر النكسة». لست أستطيع أن أروى القصيدة كلها مع أن كل بيت من أبياتها يستحق أن يُكتب بماء الذهب وسأكتفى ببعض الأبيات فقط يخاطب فيها كل الحكام العرب «بعد الهزيمة أمام الدولة الصهيونية»، يخاطبهم جميعاً فى شخص واحد منهم قائلاً:
يا سيدى السلطان
لقد خسرت الحرب مرتين
أن نصف شعبنا ليس له لسان
ما قيمة الشعب الذى ليس له لسان
ويطالب الحكام العرب جميعاً- بعد الخيبة- بالرحيل.
ولما عرف نزار أنه ممنوع من دخول مصر أصابه حزن شديد واتصل بأم كلثوم يقول لها: تصورى أننى ممنوع من دخول مصر التى أعشقها وأعشق أهلها ونيلها! هل هذا معقول؟! فما كان من أم كلثوم إلا أن اتصلت بجمال عبدالناصر وأخبرته بما أخبرها به نزار قبانى. فاستدعى عبدالناصر على الفور بعض المسؤولين وعرف منهم أنه قد صدر أمر فعلاً بمنع نزار من دخول مصر بعد نشر هذه القصيدة، وقال عبدالناصر للمسؤول الذى أخبره بذلك: «إذا كنا نحن قد مزقتنا النكسة وأحزنتنا ونحن أناس عاديون فهل تنكرون على شاعر مثل نزار قبانى أن يحزن ويتمزق ويقول ما قال وأكثر منه؟! ارفعوا أمر المنع فوراً وعندما يحضر إلى القاهرة سوف أستقبله».
ومن الذكريات ذات المغزى التى سمعتها عنها- رحمها الله- أنها كانت ذات ليلة فى منزل أمير الشعراء أحمد شوقى فى حفلة خاصة ضمت بعض أصدقاء أمير الشعراء وكانت أم كلثوم من بينهم.
دارت على الحاضرين أقداح النبيذ وغيره واعتذرت أم كلثوم أنها لا تشرب الخمور، وغنت أم كلثوم فى ذلك الحفل تحية للحاضرين.
وبعد أيام إذ بأمير الشعراء يذهب إليها فى منزلها ولما استقبلته وجلس وشرب القهوة قدم لها مظروفاً فجزعت أم كلثوم وتصورت أنه يعطيها مالاً مقابل غنائها فى الحفل الخاص.
فقال لها أمير الشعراء: لا تجزعى وافتحى المظروف، فإذا فيه قصيدة يقول فيها شوقى:
سلوا كؤوس الطلى هل لامست فاها
واستخبروا الراح هل مست ثناياها
هذه هى أم كلثوم.
وفى مثل هذه الأيام منذ تسعة وثلاثين عاماً دخلت أم كلثوم مستشفى القوات المسلحة بالمعادى، وبعد أيام عندما كنت وزيراً لشؤون مجلس الوزراء ووزيراً للتنمية الإدارية فى وزارة الأخ الكبير الأستاذ الدكتور عبدالعزيز حجازى إذا بتليفون مجلس الوزراء فى مكتبى «يرن»، وإذا بالمتكلم هو مدير مستشفى المعادى للقوات المسلحة، رددت عليه وإذا به يقول لى بصوت حزين: «البقية فى حياتكم أم كلثوم انتقلت إلى جوار ربها الآن»، وكانت الساعة الثانية والثلث بعد الظهر.
وفى اليوم التالى خرجت الجماهير لكى تودع أم كلثوم. ولم أستطع أن أشارك فى الجنازة لشدة حزنى عليها رحمها الله رحمة واسعة.
قلت ذات يوم فى حديث تليفزيونى- عندما كنت أظهر فى القنوات الفضائية- إن أكبر قصرين فى الجنة بعد الرسل والصديقين والشهداء هما قصر غاندى وقصر أم كلثوم.
واتهمنى البعض بالكفر بل أبلغ عنى النيابة العامة.
أظن أن ملايين العرب الذين يسمعون أم كلثوم يقولون فى كل مرة «رحمها الله».
واعتقادى أن الله سيستجيب لنا، وأن أم كلثوم فى جنات الخلد فى عليين. رحمها الله رحمة واسعة.
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع