ثورة يونيو بلا مدافع فى واشنطن وتواجه تنظيماً شرساً لم يجد من يردعه حتى الآن
للقرار الأمريكى عناصر أربعة.. ومصر ترتكن إلى عنصر وحيد وهو الكونجرس وبلا أى وجود فى مراكز الأبحاث أو الإعلام
* مبدئياً هذا المقال هدفه ليس انتقاد أشخاص بعينهم أو تعرية كسل بعض المؤسسات فى الدولة، ولكنه رسالة إلى صانع القرار المصرى وتفكير بصوت عالٍ، من واقع معايشة.. لخسائر متتالية.. لحقت بثورة يونيو على مدار أشهر داخل الساحة الأمريكية والرأى العام الأمريكى وترجمت فى نهاية المطاف إلى مواقف أمريكية داعمة للإخوان وآن الأوان لكى نعيد تغيير المعادلة لصالحنا والتفكير سوياً بعمق فى حسم الشق الخارجى فى معركتنا مع الجماعة الإرهابية.
* وقد يستسلم البعض ويقول إن هذا الدعم ينطلق فى الأساس من وجود مخطط كان الإخوان رأس سهمه فى المنطقة.. وأرد عليه بالقول حسناً ولكن ماذا فعلت أنت لمواجهته؟ وقد يستسلم بعض آخر لقوة اللوبى الإخوانى فى أمريكا المدعوم من التنظيم الدولى للإخوان.. وأرد عليه وأقول وماذا فعلت أنت لتكوين لوبى مضاد مستثمراً مساندة دول الثقل العربى، وفى مقدمتها المملكة العربية السعودية والإمارات؟
وعملياً كنت أستشعر الحرج لكتابة هذا المقال فى ظل وجود السفير نبيل فهمى وزير الخارجية، الذى يعد واحداً من أشهر سفرائنا فى الولايات المتحدة وما زالت علاقاته حية، وما زالت سمعته حاضرة فى الكثير من الأوساط الأمريكية، وعلى المستوى الشخصى كان رأى الوزير فهمى مهماً بالنسبة لى عندما حضرت إلى واشنطن للمرة الأولى قبل عامين لدراسة عملية صنع القرار الأمريكى ولم يبخل علىّ بخبرته فى بلد يحفظه عن ظهر قلب ومجتمع يعرف مفاتيحه وأرشدنى إلى طرق تعظيم استفادتى من التجربة، ومع ذلك، فإننى أرى أن الوزير نبيل فهمى كان بإمكانه الكثير لكى يفعله ولم يفعل، صحيح أن الرؤية الخارجية للدولة ليست مهمة وزارة الخارجية وحدها، ولكنها تبقى رأس السهم فيها ودائماً تبقى فى صدر لوحة التنشين عند الإخفاق.
ولكى نبسّط الأمور، وبإيجاز دون إخلال بالفكرة والمضمون والهدف من هذه السطور التى تعد محصلة رصد «الوطن» للتفاعلات الأمريكية خلال الأشهر الماضية.. باختصار شديد واشنطن ليست مجرد عاصمة سياسية لأهم دولة على الساحة العالمية وتختلف تلك البقعة من الأرض الواقعة على نهر بوتوماك، الذى يفصل بين ولايتى مريلاند وفيرجينيا عن عواصم أخرى كان لها نفس الشأن السياسى فى التاريخ الحديث كحال باريس ولندن قبل الحرب العالمية الأولى والثانية، وسر اختلاف واشنطن نابع من اختلاف النموذج الأمريكى نفسه وصياغة فكرة الدولة فيه.. فواشنطن هى سوق سياسية مفتوحة بكل ما تحمله كلمة «السوق» وتخضع الأفكار والأيديولوجيات السياسية فيه أيضاً لحسابات العرض والطلب وتعرف الدعاية والإعلان للأجندات السياسية والاقتصادية لذا لم يكن من المستغرب أن تكون مساحة بيزنس شركات العلاقات العامة الأمريكية تتجاوز مليارات الدولارات.
وتلك التركيبة خلقت من جراء تشابك عملية صنع القرار الأمريكى، الذى يتداخل فيه أربعة عناصر رئيسية وهى «مراكز الأبحاث والوسط الأكاديمى الأمريكى»، و«الإعلام الأمريكى»، و«الكونجرس الأمريكى»، و«الإدارة الأمريكية».
هذه العناصر الأربعة التى يمكن تشبيهها مجازاً بأركان المنضدة لأى قرار أمريكى تعاملت مصر معها على مدار عقود بشكل نمطى يحقق الحد الأدنى من المصلحة المصرية ولم يتجاوز التفكير إلى حد تعظيم هذه المصالح ويمكن القول إن الوحيد الذى فهم هذه اللعبة كان الرئيس الراحل محمد أنور السادات الذى تمكن من تحويل أمريكا من عدو إلى حليف فى أقل من ثلاث سنوات من حكمه وبنى العلاقات المصرية - الأمريكية فى شكلها الحديث، واضعاً أركاناً ثابتة لهذه العلاقة.
وبعد ثورة 30 يونيو أخطأ التفكير المصرى عندما تعامل بنفس النمطية، ومن موقع الثبات مع واقع متغير شديد السرعة داخل الولايات المتحدة واستمر نفس الأداء الذى يرتكن إلى الاتصالات الرسمية فقط فى دفع العلاقة أو شرح وجهة النظر المصرية والدفاع عنها، فى حين أن اللوبى الإخوانى تحرك على المستويات الأربعة لعملية صنع القرار، فكان له الغلبة فى التأثير والحضور.
فعلى مستوى مراكز الأبحاث والوسط الأكاديمى يعد الحضور المصرى منعدماً يتوقف عند نقطة الرصد وليس التفاعل، بل والاشتباك إذا لزم الأمر وكان واجباً هذا الاشتباك فى المعركة التى نخوضها الآن ومسألة مراكز الأبحاث وأهميتها أدركها لوبى الإخوان جيداً ودخلوا فى تمويل الكثير منها، وفى المقابل كان بإمكان مصر أن تخلق صوتاً بحثياً مضاداً يشرح الحقيقة بتمويل بعض المراكز أو الدخول فى شراكات مع المراكز الكبرى، كما فعلت الخارجية القطرية مع معهد بروكنجز أو تتطوع بعض الشخصيات المصرية بتمويل ودعم بعض المراكز مثل ما فعلته شخصيات عربية أخرى أدركت أهمية هذا الأمر ومن بينهم الأمير الوليد بن طلال ورئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريرى، وكان فى إمكان الخارجية المصرية أن تدخل فى شراكات مع عدد من المراكز، ولكنها لم تفعل، وهذا الأمر ليس عجباً داخل المؤسسة الدبلوماسية المصرية إذا عرفنا أنها وقعت مثلاً العام الماضى مع مؤسسة «ويلتون بارك» البحثية البريطانية، فلماذا لم تقدم على هذا العمل فى ظل هذا الظرف الدقيق؟، وأهمية هذه الشراكات تكمن فى أنها تتيح عقد فعاليات مشتركة رفيعة المستوى فى صور ندوات، ومؤتمرات، وحلقات نقاشية يحضرها مسئولون ومفكرون وخبراء محليون ودوليون من ذوى المكانة يتناولون فيها مختلف المسائل وتكون كلمة مصر حاضرة ومسموعة.
أما العنصر الثانى وهو «الإعلام الأمريكى»، فحدث ولا حرج، وهنا من حقنا أن نتساءل عن إنجاز المكتب الإعلامى المصرى فى واشنطن خلال الأشهر الماضية.. هل صاغ خارطة شاملة لوسائل الإعلام الأمريكية وصنف خطابها من هم معنا ومن هم ضدنا ووضعها أمام صانع القرار المصرى؟ هل يملك المكتب الإعلامى شبكة العلاقات العامة مع الصحافة والفضائيات الأمريكية التى تتيح له عرض وجهة النظر المصرية والدفاع عنها والقيام بحملات مضادة إذا لزم الأمر؟ هل يقوم المكتب الإعلامى بالمتابعة مع شركات العلاقات العامة التى تعاقدت معها الحكومة المصرية داخل أمريكا وفرضت الرؤية المصرية على المواد التى يتم بثها من خلال هذه الشركات واختارت المنابر الأمريكية التى توضع فيها المواد الإعلامية؟ هل قدّم المكتب الإعلامى تصوراً ليكون جسراً حيوياً بين الماكينة الإعلامية المصرية الضخمة ونظيرتها الأمريكية وصاغ شركات وتفاهمات بين هذه الفضائية وتلك، وهذه الجريدة وتلك، من هنا وهناك، بما يخدم المصلحة الوطنية المصرية ويعظمها؟ أعتقد أن النتيجة التى وصلت إليها صورة الواقع السياسى فى مصر داخل غالبية وسائل الإعلام الأمريكية تؤكد أن ما طرحته من أسئلة ليس له إجابة لدى القائمين على هذه المهمة، وفى المقابل سخر التنظيم الدولى إمكانياته لخدمة الإخوان إعلامياً، سواء بالإعلان أو بالمواد المنشورة ولم يجد من يردعه إعلامياً.
وبخصوص العنصر الثالث وهو «الكونجرسى وهنا يجب أن نحيى السفارة المصرية فى واشنطن وطاقمها الدبلوماسى، برئاسة السفير محمد توفيق على الجهد الجبار الذى يباشرونه مع أعضاء مجلسى النواب والشيوخ، الذى تُرجم فى الكثير من المواقف الإيجابية من الكونجرس تجاه مصر، ولكنها ليست كافية وحدها كما أن هذا الطاقم يستحق الدعم بعدد أكبر من الدبلوماسيين والكفاءات، لأن المهمة ثقيلة والحركة شديدة السرعة، وعلى الرغم من ذلك إلا أنهم أجادوا قدر المستطاع ويمكن اعتبار الكونجرس هو الضلع الوحيد الذى تتوغل فيه مصر فى أركان صناعة القرار الأمريكى.
وأخيراً تأتى الإدارة الأمريكية ومؤسساتها، سواء الأمن القومى والاستخبارات المركزية ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع وكل تلك الأركان ترتبط بعلاقات مؤسسية مع نظيرتها المصرية، تحاول أن تحافظ عليها قدر المستطاع، ولكنها تتأثر بسلم الضغوط القادم لها من العناصر الأخرى، بداية من مراكز الأبحاث، ثم الإعلام، ومن بعدهما الكونجرس، وبالتالى تدخل مصر المعترك فى سلمه الأخير، فتارة تنجح وتارات تخسر ويربح الإخوان.
هذه هى الصورة العامة بإمكاننا أن نفعل الكثير وأن نربح معركتنا ونعظم مصالحنا مع الولايات المتحدة بالأطر التى فرضتها ثورة يونيو وأهمها أن مصر استعادت مساحة الرفض فى هذه العلاقة بعدما تآكلت فى عهد «مرسى».. فقط نحتاج الرؤية والإرادة والعمل.
نقلا عن الوطن
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع