بقلم مهندس عزمي إبراهيـم
مصر وطن عريق عراقة الزمن، والأمَّة المصرية أمَّة عريقة عراقة الوجود. أمَّة عظيمة أصيلة ذات ابداعات في حضارة تجاوزت عصرها بعصورٍ وما زالت باهرة حتى يومنا هذا. أمَّة الفراعنة المصريين العظام. أمَّة لا تعلو عليها أمَّة. مصر، بل لا توازيها أمَّة. أمَّة سيدة رائدة قائدة مُبدعة خالدة، يحاول المغرضون وبعض أبنائها المخدَّرون بالعروبة وبالدين أن يجعلوها تابعة لمن لا يرقى إلى مكانتها. والحقُّ، لن تقوم لمصر قائمة حتى يعتز أبناؤها بهويتهم "المصرية البحتة" ولا يشركوا فيها فيكفرون بها!!!
ولو غضضنا النظر عن بهاء مصر في عصورها العريقة، فالحقيقة الرائعة التي يتفق عليها الجميع هي أن أزهي عصر لمصر في تاريخها الحديث، وبالتحديد في الـ 1400 سنة الماضية، أي منذ دخول الإسلام مصر، كان عصر نهضة القرن العشرين. تلك النهضة التي بذر بذورها بذكاء وإخلاص محمد علي باشا عند توليه حكم مصر عام 1805م، رغم أنه لم يكن مصرياً ولا عربياً. ونبتت تلك البذور وأثمرت تدريجياً تحت حكمه ثم حكم أسرته الملكية حتى ازدهرت في النصف الأول من القرن العشرين. ووصلت قمة روعتها حُكماً وديموقراطية واقتصاداً وإنتاجاً وعلماً وفناً وأدباً وخُلقاً وديناً في وحدة شعبية متجانسة ووطنية رائعة. حتى ان تلك الفترة سميت بحقٍ "الزمن الجميل"
في تلك الفترة كانت مصر. "مصرية بحتة": قوميةً وهويةً. كانت مصر تتحدث العربية، ولم تكن "عربية" ولا "عربية التبعية"!! وكانت بغالبية إسلامية، بل كانت حصن الإسلام وحاميته، ليس بمصر فقط بل بدول الشرق جميعاً وبالعالم، برعاية أزهرها الواعي وعلمائه المتنورين، ولكنها لم تكن "دينية" أو "إسلامية" أو "عنصرية"!!
أما الحقيقة المؤسفة فهي أن تلك النهضة الرائعة تجمدت تلقائياً في عصر جمال عبد الناصر عام 1952، وربما بغير قصد في بدء تجمدها. والحقيقة المؤسفة أيضاً أن حكومات مصر جميعاً منذ ذلك التاريخ ساهموا في أن تأخذ مصر طريقاً منحدراً تسَبَّبَ في مسخ الهوية المصرية، أو على الأقل تمييعها وإضعافها.
ذاك المنحدر كان منزلقاً للهوية المصرية من لونين هما بالتتابع ثم بالمزج: عربي وديني. فقد بدأ بلوثة "التبعية العربية" ثم تزاوج بلوثة "العنصرية الدينية"، فسقطت الهوية المصرية فريسة في عباءة الإثنين معاً.
انزلقت مصر تدريجاً وبسرعة رهيبة (في 60عاماً) حتى يومنا هذا، بلا مبالغة ولا افتراء. وعانت الهوية "المصرية البحتة" وفسد مفهومها بين بعض المصريين تحت حكم حكامها الخمس. فقد "عرَّبها" عبد الناصر بأحلامه التوسعية الخرقاء رغم مجهوداته الحيوية بمصر. و"أسلمها" السادات بتعصبه العنصري وفتحه باب الساحة المصرية على مصراعيه للأخوان والوهابية. و"ميَّعها" مبارك بخلط الأوراق، سيئها على حساب جيدها، متلاعباً بكليهما ومحابياً دول الشرق والغرب في سبيل البقاء والجشع والتوريث. و"طيَّنها" طنطاوي بتهاونه وتراخيه مع الوهابيين السلفيين أذناب السعودية، الذين رفعوا أعلام دولة أجنبية (السعودية) على أرض مصر وهتفوا باسمها في أعظم ميادين مصر دون عقاب، ثم تسليمه حكم مصر بل مصر ذاتها للأخوان لقمة سائغة على طبق من ذهب في صفقة الخروج الآمن له وشريكه في التراخي والخيانة سامي عنان. ثم "أخَوَنَها وأرهَبَها" مرسي بتبعيته للأخوان وبقَسَم السمع والطاعة لمرشدها الحاكم الفعلي لمصر والحالم بالخلافة الوهمية، وبتمكينه الأخوان من مفاصل جميع أجهزة مصر وتفتيت عضلاتها وبيع أطرافها تنفيذاً لمخططات أعداء مصر: أمريكا وإسرائيل وقطر والسعودية وإيران.
العجيب أنه بينما تحتفظ قبائل بل وعائلات صغيرة في قرى لا وزن لها بتقاليدها وتفتخر بأصولها وأنسابها، نجد حكام مصر وبعض فصائل من شعبها يفرِّطون في هويتها ويهدرون تاريخاً وحضارة يكفيا العالم فخراً. وأبحث في العالم على سعته فلا أجد دولة عَبَثَ حكامها بهويتها وقومية شعبها، بل وبإسمها العتيق - مصر - كما عَبَثَ عبدالناصر والسادات ومبارك وطنطاوي ومرسي.بأعرق دولة على سطح البسيطة، وبأعرق شعوب الشرق والعالم قاطبة.
مصر في الـ 60 عاما الماضية خذلها حُكامها بالفعل وأزهرها بالتغاضي والسكوت. ولكن الأمل في عظمة الشعب المصري. بأصالته وحبه لهذه الكنانة المباركة. لن يكون المصري إلا مصري بحت. فخور بقوميته المصرية البحتة. لا انتماء أو تبعية لغير مصر. فليس هناك في العالم أجمع وطن آخر يعلو على مصر لتتبعه. وليس هناك في العالم أجمع قومية أعرق وأعظم من القومية المصرية. المصري ليس عربياً، ولكنه صديق أمين لأصدقائه المخلصين، عرب كانوا أو غير عرب. ومصر ليست عربية، ولكنها صديقة أمينة لمن يبادلها الصداقة، عرب كانوا وغير عرب. فخورة بما تحتضنه من أديان وعقائد، فقد كانت طوال تاريخها بوتقة أديان مزدهرة بعقائد مواطنيها. وعصر نهضتها بالقرن العشرين خير دليل ولذا سُمِّيَ "الزمن الجميل".
من هم العرب؟ هم شعب شبه الجزيرة العربية، السعودية ودول الخليج حيث يقيمون. وجميع الدول التي استعمروها، مصر والشام وفارس والعراق وغيرها، استقلت عنهم منذ زمن بعيد فاستردوا قومياتهم وهوياتهم. والمشاركة في الدين بين الأوطان لا تجعل من الدين "هوية وطنية" فبأندونيسيا وباكستان والهند وبانجلادش أكبر تعدادٍ للمسلمين في العالم، يتلوهم إيران وتركيا وأفغانستان. ولا يطلق على أي من تلك البلاد "عربية". ولا يَدَّعِي حكامها أو مواطنوها أنهم "عرب". وتلك البلاد لا تصل عراقة وحضارة وأصالة تاريخية مثل مصر التي يدعي "بعض أبنائها" أو "بعض حُكامها" أنهم عرب وتابعين للعرب هطلا وحماقة وجهلا. بل هي ضِعَة صريحة واهانة وتبعية ليست مستحقة ولا مشرِّفة!!! وكما أن اشتراك الأوطان في الدين لا يجعل الدين هوية وطنية، فالاشتراك في اللغة أيضاً لا يجعل اللغة "هوية وطنية" فأكثر من نصف العالم يتحدث الإنجليزية وليسوا بريطانيين.
وإذا كان استعمار العرب لأرض مصر هو المبرر في هذا التعلق التبعي، فالتعلق بمستعمر أمر مشين، علاوة على أن استعمار العرب لمصر انتهى عام 877م باستقلال أحمد بن طولون بمصر حيث استقلَّ بها وعزلها تماماً عن الدولة العباسية العربية. كما أن بعض تلك البلاد كإيران وتركيا استعمرت من العرب مثلها مثل مصر، ولكنها لم تفقد لغاتها وتقاليدها وهوياتها المستقلة. ومن البديهي أن مصر ليست بأقل من إيران أو تركيا أو الباكستان وغيرهم!! إلا إذا كان حُكام مصر الخمس والبعض من المصريين الحَمقى رأوا أو يرون غير ذلك. فبئساً لهم فيما ظنوا ويظنون.
والحقيقة الصارخة أن العرب لا ينظرون إلى شعوب مصر والشام والعراق وفارس على أنهم عرب، بل على أنهم عجم. من فترة كانت مصر في نظر العرب أمهم الحنون حين كانوا صغاراً وفقراء محتاجين معوناتها ومسانداتها لهم. كانت ترعاهم باخلاص، تحتضنهم وتطعمهم وتكسيهم وتعلمهم وتمَرِّضهم وتعالجهم، بل وتحميهم. اليوم بعد أن قَوَتْ مفاصل الأعراب بفيتامينات الجاز وعصير البترول نسوا ما قدمت لهم مصر بل ظهرت عليهم أعراض الجشع والطمع والمكر وانكار الجميل والصلف والاستحواز وتشجيع الفتنة والإرهاب والتخريب في أرضها الطيبة وعلى شعبها الطيب. تصرفات العرب اليوم رغم مساعداتعم "المسببة والمغرضة" تثبت ما يضمرونه تجاه مصر من حقد دفين، حتى لو استتروا. وأعمال ونوايا الوهابية السعودية والقطرية خير مثل لذلك.
المصري، مسلم أو مسيحي، ببلاد الغرب يُعامَل بكرامة وحرية لا يجدها ببلاد "العرب". فالعرب بالسعودية ودول الخليج يعاملون الأجانب من أي جنس هندي أو فليبيني أو أوروبي أو أمريكي أفضل من معاملاتهم للمصريين. ومن يُكذّبني فليسال المصريين والمصريات الذين عملوا أو يعملون اليوم بتلك البلاد، عمال ومهنيين أجراء وخادمات وحتى ذوي الكفاءات كيف يُعامَلون. علاوة على ابتزازات الكفيل وما شابه الكفيل.
ختاماً، نحن بمصر، مسلمون ومسيحيون وغير ذلك، "مصريون" فقط. هويتنا "مصريون فقط". غالبيتنا مسلمون ونتحدث العربية، ولكن لا الدين هوية ولا اللغة هوية. ولسنا عرب ولا هكسوس ولا فُرس ولا بطالمة ولا اغريق ولا فرنسيين ولا انجليز، ولا انتماء أو تبعية وضيعة لأي غازٍ مستعمر استنزف خيرات وكرامة مصر.
لو يدرك مسلمو مصر تلك الحقيقة البسيطة والصادقة، ويقدروها، ويفتخروا بمصريتهم كوطن وهوية، وبإسلامهم كدين دون انتماء لعروبة لا محل لها، يكونوا قد اتخذوا الخطوة الأولى في الطريق القويم نحو المواطنة والوطنية الحقة والمشرِّفة والمستحقة لمصر، هذا الوطن الكريم.