أحمد الجمال | الاربعاء ١٥ يناير ٢٠١٤ -
٠٥:
٠٩ ص +02:00 EET
قطر
بقلم أحمد الجمال
الأصل فى الأسواق أنها مكان للبيع والشراء والتبادل، ومن ثم الربح والخسارة، وقد ظلت فى حياة البشر أنشطة كانوا حريصين على أن تبقى بعيدا عن عالم السوق بكل ما فيه، ولذلك كانوا يسمونه مجالات أو عوالم كالفكر والثقافة والصحافة والسياسة وبعض الفنون، إلى أن انقلب الحال وصارت المجالات بدورها أسواقا وصرنا معتادين على أن نسمع عبارات من قبيل سوق السياسة وسوق الثقافة وسوق الصحافة والفن وغيرها دون أن ترفض آذاننا أو تمتعض نفوسنا، وأظن أن هذا التحول ارتبط فى مصر بما جرى بعد حرب أكتوبر التى كانت آخر محطة لتجلى المجالات غير القابلة للتسعير أو البيع.. خاصة مع هجوم الانفتاح ووقوف رئيس الدولة المؤمن ليعلن أن «مصر غليت يا ولاد ومتر الأرض وصل ٧٠٠ جنيه فى وسط البلد»!، وعرفنا- كما عرف الجميع- أن عائد النصر الذى حققه أبناء الفلاحين والعمال والفئات الأخرى بعد امتصاصهم مرارة الهزيمة وإقبالهم على التدريب والبقاء فى خنادق الرمل ست سنين متصلة لا يؤثر فيهم حر ولا برد ولا جوع، هو عائد اتجه إلى حيتان الانفتاح وقططه السمان، حتى صارت الإسكندرية عاصمة العالم الهللينى وعروس المتوسط أمانة فى عنق الحاج فلان التاجر أو المقاول أو المهيمن على العالم السرى للميناء وغيرها!
أقول هذا الكلام ليس من باب التأريخ للظواهر الاجتماعية، ولكن لأن السوق الآن غارق فى «لغليغة» كلام عن تدفق الأموال فى سويقة السياسة وسويقة الإعلام بشقيه المرئى والمقروء وبقية السويقات التى هى مصغر سوق وتستخدم فى مقام الحط من الظاهرة لأنها لا ترقى لمستوى السوق!
كلنا موجوعون مما تفعله قطر أو ما يفعله آل ثانٍ حكامها ومعاونوهم، لكننا وبصراحة- حلوة بصراحة لأنها تذكرنا بالأيام التى كان كل ناطقى العربية ينتظرون يوم الجمعة لقراءة بصراحة أو الاستماع لنصها من صوت العرب.. أيام لم تكن فيها المجالات أصبحت أسواقا وآسف للاستطراد- لكننا وبصراحة لم نلتفت إلى أن العيب ليس هناك وإنما هنا عندنا، وعلى مستويات تثير العجب!
إننى أتخيل مسؤولين قطريين جلسوا منذ سنين يخططون لما يريدون فعله فى المنطقة ومحاولة التشبه بالدولة العبرية «إسرائيل» محدودة المساحة، ومن حولها «هوامير» عاتية كإيران والسعودية والعراق، وإلى حد ما مصر، وتريد أن تلعب دورا يناسب ثراءها وطموحات بعض حكامها.. وأتخيل أنهم صادفوا معضلات لا حل لها، وعلى رأسها كيفية ترويض النخب العربية.. لأن قطر لا تملك ريادة فى أى مجال من مجالات الفكر والثقافة والفن والسياسة، ولا تملك أى قدرة فى أن تجبر الآخرين فى تلك المجالات على أن يعترفوا لها بفضل الأستاذية، وربما جاء الحل ببساطة شديدة على لسان أحدهم: «دعونا نرى كيف نشترى هذه النخب»، وأتخيل أنهم كانوا قد أنجزوا مرحلة فى هذا المسار باستحواذهم على نخبة ما يسمى التيار الإسلامى وبوجود القرضاوى وأشكاله هناك.. وبدأ العمل بجداول تحدد من تريد قطر ترويضهم والسيطرة عليهم، ولكن كانت هناك «رتب» سياسية وفكرية وثقافية وصحافية فى أعلى سلم «النوع» المطلوب.. وهنا بُذلت جهود جبارة تراوحت بين تقوية أواصر الود الإنسانى بين بعض الشخصيات القطرية- خاصة ممن هم محسوبون على الاتجاه القومى والناصرى والليبرالى- ومن خلال هذه الأواصر بدأت مراحل العمل بجدية لتنتهى بوصول تلك «الرتب» إلى البلاط الأميرى معززين مكرمين لدى الحاكم وزوجته وأسرته، ووصول «الصرر»- جمع صرة- بوسيلة أو أخرى حتى بدأت تأخذ شكلا «يبدو محترما» بأن تكون مقابل عمل قد يقتصر على الكلام على الشاشة دوريًا، وهنا صارت «الصرة» شيكا بالملايين!
هكذا إذن وضع أصحاب الشأن القطريون المعادلة: قل لى تريد مَن مِن المصريين ومتى وكيف تريده ودعنى أنظر فى جدول السعر السوقى له ولا تحمل همًّا! وأظن أن التفكير بهذه الطريقة أتى ثماره على نحو عايشناه ونعيشه. وقد تأتى مرة أجد فيها مجالا لأحكى كيف وجدت نفسى أسمع بأذني- وفى حضور خمسة من الأصدقاء- كم أساوى فى الجدول إياه.. ولكن الله لطف بأن ألهم بعض الحضور تحذيرى.. وكان البديل أن أستلف، أى أقترض، من أولئك الأصدقاء!
وليست قطر وحدها التى تعمل الآن فى مزاد أسعار سوق النخبة المصرية، لأن الوجوه الكالحة المنحطة من «ألاضيش» الحزب الوطنى التى بدأت تطل الآن بغير أدنى حياء وبغير أدنى قدرة على استيعاب الدروس، تمضى فى الطريق القطرى ذاته: «تريد مَن ومتى وإلى متى؟! لا تقلق فكل واحد له ثمن، حتى إن كان أتخن تخين فى الفكر والثقافة والعلم الاجتماعى»!
ملايين قطر التى تدفقت فى سوق النخاسة السياسية والإعلامية والصحفية جاءت من جيوب حكامها بعد أن أكرمهم ملك الملوك الذى إن وهب فلا تسألن عن السبب، والسبب معلوم وهو القىء الجيولوجى السائل والغازى الذى تركته الطبيعة، أما الملايين التى تتدفق من الألاضيش إياهم فهى من أموال مصر وشعبها التى نهبت منذ انفتاح السداح مداح قبيل منتصف السبعينيات، وليس فقط فترة مبارك وحدها.. يعنى بالبلدى سرقونا وسرقوا أموال البلد وأذلونا وباعوا فينا واشتروا وراجعين مرة أخرى ليشتروا الضمائر والقدرات والإمكانات الذهنية، ليتمكنوا من العودة إلى «مهابرهم»- على وزن محاجرهم- القديمة التى مارسوا منها الهبر وبيع الوطن.
هل تتعلم النخب المصرية الدرس، وهل تعود كما كانت يوما المنارة الساطعة فى محيطها العربى والإفريقى والإسلامى والعالم.. يوم قال قائلهم عندما جاءه سعد الدين إبراهيم يشرح له العلاقة بين المثقف والأمير، وكيف أنها قد تقطع عبر جسور خشبية أو معدنية أو ذهبية، وعرض عليه أن يصحبه إلى أحد أولئك الأمراء- فى الجنادرية على ما أظن- فإذا بذلك القائل يرد وفق ما سمعت منه بأم أذنى: «لقد كان لى أميرى الخاص، ولن أقبل بأمير غيره لأنه كان اسمه جمال عبدالناصر»، ورفض دعوة الدكتور سعد ولم يذهب إلى الأمير البديل.. ولكن على رأى عمنا الساخر محمود السعدنى: سبحانك ربى مغير الأحوال.
نقلأعن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع