الأقباط متحدون - الأخلاق بين المبدئية والنفعية
أخر تحديث ٠٤:٥٧ | الأحد ١٢ يناير ٢٠١٤ | طوبة ١٧٣٠ ش ٤ | العدد ٣٠٦٧ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

الأخلاق بين المبدئية والنفعية

صوره تعبيريه
صوره تعبيريه

 من يفشل في إدراك الأسس المصلحية لمنظومة الأخلاق، لابد وأن تنعدم أخلاقه، مهما ادعى التقوى والورع.

بدأ المحتوى الذي يتضمنه مفهوم "الأخلاق" في التشكل مع بداية تجاوز الإنسان الأول مرحلة الالتقاط الفردي المتجول، وبدء مرحلة الحياة المجتمعية في أكثر صورها بساطة، وهي تكوين أسرة والقرب المتفاعل مع أفراد أو أسر أخرى، فقد استدعى هذا التجاور وما ترتب عليه من علاقات حياتية ضرورة وجود قواعد يراعيها جميع الأطراف، لوقف الشجار والتنافر ثم الهجر الذي شهدته تلك المحاولات الأولية لتشكيل مجتمعات، وكانت الأخلاق هكذا في بدايتها هي ما انتبهت الحفنة من أعضاء هذه المجتمعات إلي وجوب الاتفاق حول الالتزام به من قبل الجميع، أي إنها كانت أشبه بما نسميه اليوم "دستوراً توافقياً"، وليس بالطبع مثيلاً لدستور الإخوان المسلمين المصري "التوافقي"!!
 
أساس الأخلاق إذن هو تحقيق المنفعة للأفراد وللمجتمع ككل بما يحفظ حقوق الجميع، ويكفل بقاء الترابط المجتمعي الذي يقصي من يخرج على القواعد المجتمعية، أو على الأقل يتجه بالإدانة لسلوكه المخالف لما تم الاتفق عليه. . هي إذن مرحلة سابقة على ظهور السلطة العامة وما لابد وأن يصاحبها من قوانين تحاسب بها الناس، مرحلة اعتمدت على القناعة العامة بفائدة السلوكيات والقواعد المتفق عليها، وبأن الإخلال بها يعد عملاً مستهجناً من الجميع بلا استثناء، ومن البديهي أن حزمة هذه القواعد الأخلاقية كانت مرتبطة بتطور المجتمعات من حيث الحجم ونوعية النشاطات الاقتصادية وسائر ظروف الحياة بصورة عامة، ونفترض أن هذه الحزمة من الأخلاقيات تمتعت في البداية بمرونة فائقة لتواكب التطورات المجتمعية، فيضاف إليها تلقائياً ما يستجد مع التغيرات، كما يسقط منها بالنسيان والتجاهل ما تنتفي الحاجة إليه، أو ما يستجد من تعارض له مع تغير الأحوال، لتكون "الأخلاق" هكذا هي "خزانة للقيم" النافعة للمجتمع بلا زيادة أو نقصان، ولقد ظلت هذه الحالة من المرونة والنقاء لمحتويات تلك الخزانة بصورتها النموذجية في المجتمعات "الشفاهية" قبل الاعتماد على التدوينات "الكتابية"، فما أن آن أوان العصور "الكتابية" والتدوينات حتى فقدت محتويات "خزانة القيم" جزئياً مرونتها في مواكبة التغيرات الحياتية للمجتمعات.
 
ما حدث بعد البدايات الأولى مع تعقد علاقات الحياة والمنظومات الأخلاقية المصاحبة لها هو أن صارت مسألة إدراك الفرد المباشر والبسيط للمنفعة التي تعود عليه جراء التزامه ليست بذات المباشرة والوضوح الأول، فكان لابد لتدعيم الاحترام والالتزام بها أن تعطى صفة "القداسة" و"المبدئية"، فتنسب لا للمجتمع واحتياجاته العملية، وإنما تتحول إلى "مبادئ مقدسة" صادرة من جهة متسامية، ما ترتب عليه أيضاً تفاقم الردع للمخالف المنتهك لتلك المبادئ، فلم يعد الإدانة أو النبذ المجتمعي فقط، وإنما أيضاً صار هناك عقاب أخروي للخطاة فيما بعد هذه الحياة الدنيا، ولقد ترتب على هذا التحول للحزمة أو المنظومة الأخلاقية علاوة على اكتسابها قدراً أكبر من الهيبة عدة أمور، أولها انخفاض نسبي في درجة مرونة المنظومة مواكبة للتغيرات المجتمعية الحياتية، وقد بدأ هذا الجمود النسبي "للمقدسات" في ظل "الثقافة الشفاهية" رغم ارتفاع درجة مرونتها، وتفاقم في ظل "الثقافة الكتابية" التي عملت إلى حد بعيد على تثبيت وتأبيد "الوصايا المقدسة"، لكن الأخطر في الأمر هو أن هذا التحول في مصدر الأخلاق المفترض من قناعة داخلية للفرد (تحقيقاً لمنافع خاصة وعامة) إلى مصدر خارجي مهيب، هو شعور الإنسان بأن الأخلاق "مفروضة" عليه وليست "مطلوبة" منه شخصياً، لتبدأ من هنا مسيرة ما نعرفه بالنفاق والتلون والادعاء المظهري للتقوى، وهو بالتأكيد ما لم يكن منعدماً تماماً قبل تلك النقلة، وإنما تزايد هكذا بصورة أكبر بكثير من ذي قبل، فطبيعة الإنسان التهرب من "المفروض" من الخارج مهما كانت قداسة من فرضه، مقابل الالتزام النسبي بما تمليه القناعات الداخلية، وهنا أيضاً تظهر خطورة تحول الدين المفترض فيه الاعتماد على الإيمان الداخلي للفرد وبناء ضميره، إلى قوانين وتشريعات خارجية مفروضة بسلطان زمني.
 
ليس ما تقدم فقط، لكن التراجع بمبرر الأخلاق ومحبذها من ساحة النتائج النفعية العملية إلى مسوغات "قبلية" باشتقاقها من مبادئ ثابتة مقدسة مقصودة لذاتها ومنفصلة ومفارقة لما يترتب عليها من نتائج عملية، أدى إلى لجوء الراغبين في الخروج على "الأخلاق" إلى التلاعب في عملية "القياس" أو استقراء المبادئ والوصايا، وهو ما تم تسميته تجميلاً "التأويل"،  والحقيقة أن "التأويل" ساحة براح لكل من يجيد التلاعب بالألفاظ والمفاهيم والحيل التي تبدو ظاهرياً منطقية، وليس أمام من يرفض مخرجات ذلك التلاعب التأويلي إلا أن يذهب للغرق في مماحكات منطقية ومجادلات للتدليل على خطأ أو صواب قراءة "المبادئ المقدسة"، فيما يغيب عن الساحة ذلك التقييم العملي النفعي السابق، والذي كان يستند إلى أدلة مادية ملموسة، بخلاف ما صار إليه الأمر من جدل واجتهادات لن نتبين صوابها من خطأها إلا في الحياة الآخرة.
 
هكذا صرنا نعلم أطفالنا أن "من يلعب بأعواد الثقاب يدخل النار" أو "يغضب ربنا عليه"، دون أن نفكر في تعليمه حقيقة فائدة وصية "لا تلعب بالنار"، وهكذا ليس أن نندهش ممن يستنتجون أن هناك "كذباً حلالاً" و"سرقة حلالاً (استحلالاً)" و"قتلاً حلالاً (في سبيل الله)"، كما أن الحنث بالعهد أو القسم لم يعد جريمة تضع مرتكبها موقع إدانة وازدراء مجتمعي، مادام معالجة الأمر ميسور بصوم ثلاثة أيام تكفيراً!!
 
لنراجع أمثال هؤلاء أمامنا طريقان، أولهما الإبحار معهم في مستنقعات مجادلات حول صحة استنتاجاتهم واشتقاقاتهم وتأويلاتهم "للمبادئ المقدسة"، ولن تكون نتيجة المعاناة والجدل العقيم غير المخلص ولا صادق النية هو أن تنتج أنت تأويلك الخاص "للمبادئ المقدسة"، والذي لا يسلب هؤلاء الذين بدأت معهم الجدل حقهم في إنتاج تأويلاتهم الخاصة التي قد تستحق وصف "ما أنزل الله بها من سلطان"، أي لن تكون نتيجة ذلك الجدل إلا إنتاج تأويلات لن تلزم والأمر هكذا إلا من قام بإنتاجها، لتقف على قدم المساواة من حيث الحجية مع ذات التهويمات التي بدأنا الجدل لدحضها.
 
الطريق الثاني لاستعادة جدية واحترام "الأخلاق" التي أفرغها التأويل عن "مبادئ مقدسة" من مضمونها، بل واستدل منها على صحة المضاد كالكذب والسرقة والقتل وحنث العهود والأقسام، هو العودة بالأمور إلى أصلها الذي تجاهلناه أو جهلناه، وهو أن "الأخلاق" ليست غاية في ذاتها لكي نلتف عليها ونلوي عنقها لكي نبدو أمام أنفسنا وأمام الناس أننا مازلنا نسير على الصراط المستقيم، لكنها مجرد وسيلة لغاية هي "ضبط السلوك المجتمعي" تحقيقاً لمصالح مادية صرفة، وبالتالي فالنتائج العملية لتطبيقها هي التقييم الوحيد لاستقامة هذه الأخلاق وتفسيراتها أو تأويلها، بهذا ستظهر لنا حقيقة ما ذهب إليه المتلاعبون الذي استحلوا الكذب والسرقة والقتل والحنث بالعهود مثلاً، إذ ومع كل الاحترام لمنطلقاتهم "المبدئية المقدسة" التي أولوها والتفوا عليها، ستكون النتيجة أن تصير الساحة خالية من "الصدق" و"الأمانة" و"حرمة الدم" و"الوفاء بالعهد"، مادام كل يستطيع أن يستنبط التأويلات المتفقة مع هواه، أو بعبارة أخرى نصير أمة من الكذابين واللصوص القتلة وخائني العهود.
 
العكس أيضاً صحيح، فالمبادئ أو الأخلاق التي لا تسبب ضرراً لأفراد المجتمع، ولا تقف عقبة في سبيل تماسكه وانسيابية علاقاته، يفترض ألا تكون محل اعتبار أو قيمة، بل هي كأرواق الشجر الجافة التي ربما كانت ذات يوم خضراء ذات فائدة، لكن أتى عليها فصل الخريف ليحيلها إلى نفايات تحتاج لمن يجمعها ويرسل بها إلى المحرقة، ويبرز منها على الوجه الخصوص ما تفرضه تلك "المبادئ" البائدة على الحريات الشخصية بكافة أنواعها بما فيها الحرية الجنسية وحرية الإبداع الفني التي يستهدفها الآن مدعو الدفاع عن القداسة، فيما هم بتخريجاتهم وتأويلاتهم يضربون صميم الأخلاق في مقتل.
العودة لأصول "الأخلاق" ومنبتها الأول النفعي هو الحل لذلك التسيب والانحلال الأخلاقي الذي يمارسه ويرعاه من نصبوا أنفسهم حماة للمقدس وللفضيلة. . العودة بالأخلاق إلى أصلها العلماني هو الحل وهو الفضيلة الحقة المستقيمة.
 
إيلاف

 


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع