عبد المنعم سعيد | السبت ٤ يناير ٢٠١٤ -
٥٩:
٠٩ م +02:00 EET
عبد المنعم سعيد
بقلم عبد المنعم سعيد
لم تفلح حجة السيد عمرو موسى بـ(أن ما تحتاجه البلاد هو برلمان للتشريع، وأن مصر بها رئيس فعلى هو المستشار عدلى منصور)، فى إقناع زخم هائل من المصريين بأسبقية الانتخابات البرلمانية على تلك الرئاسية. ولم تنجح جماعات قليلة فى التأكيد على أن البرلمان أولا، استنادا إلى مرجعية الإعلان الدستورى الذى رسم خارطة المستقبل وأولوياتها، وفى كل اللقاءات التى أجراها رئيس الجمهورية مع القوى السياسية والشعبية المختلفة كانت الأغلبية فى صالح الانتخابات الرئاسية. وهكذا قدر الله، وما شاء فعل. وبغض النظر عن الكثير من الصياغات، فإن الحجة السياسية غلبت تلك القانونية أو التاريخية، وجوهرها أن البلاد تحتاج رئيسا، وفى قول آخر زعيما يقود البلاد فى مرحلة حرجة اشتد فيها الكرب والإرهاب إلى حيث يكون أمان وأمن.
الصياغة هكذا ربما لا تكون كافية، وتحتاج فحصا وتمحيصا أكثر، فلم تكن هناك صدفة أن الإعلان الدستورى الذى أعقب ثورة ٣٠ يونيو كان طريقا إلى «المستقبل»، وهذا ينتظر رئيسا للجمهورية يختلف عن كل الرؤساء الذين عرفناهم طوال العقود الستة الماضية. فمهمة الأمن من قبيل تحصيل الحاصل، لأن ذلك كان ما فعله تماما كل الرؤساء السابقين، وحتى تحقيق بعض من التنمية، وإدارة علاقات دولية نشطة، كل ذلك كان هم الرئيس. هذه المرة فإن ما ننتظره مختلف تماما، وليس تكرارا لمستقبل مضى لا يزيد فيه الأمر على إخفاق تاريخى آخر، من الجائز أن تتحسن فيها أحوالنا بعض الشىء، ولكننا فى نهاية المقام نكون فى صفوف الدول المتخلفة التى تعيش على المنح والمساعدات، ويتركها أهلها بحثا عن لقمة العيش فى بلدان أخرى، إذا وصلوا إليها بالطبع، ولم تلتهمهم مياه البحر أو عطش الصحراء.
الرئيس المنتظر لن يكون رئيسا ما لم يقاوم بشدة تراث سابقيه، ولن يكون ذلك ممكنا ما لم يقتنع الشعب المصرى بذلك، وتلك هى القيادة والرئاسة والزعامة فى المقام الأول. التراث ظاهر حولنا، ولم تفلح ثلاث سنوات من الثورة والفورة، سواء تلك التى بهرت العالم أو تلك التى أصابته بحزن عميق فى أن تغير من الدولة شيئا، ليس فقط بسبب الظروف الاستثنائية، وإنما لأن فئات الشعب المختلفة أرادت فقط المزيد من الأنظمة السابقة التى قامت على فصل العائد والأجر والمكافأة والحافز والربح عن العمل والإنتاج. قامت كل الأنظمة على خلل فادح بين المدخلات والمخرجات، وخذ مثالا لذلك أن الأطباء والمدرسين، كلاهما يريد كادرا جديدا يزيد فيه دخل الطبيب أو المدرس، ولكن النتيجة ليست واردة فى عملية التبادل، وحقيقة أن مصر تقع فى قاع الدول، من حيث نوعية التعليم الأساسى ومخرجاته، وأن بالبلاد أمراضا وأوبئة وارتفاعا فى معدل المواليد من ١.٩٪ إلى ٢.٤٪، كل ذلك ليس له علاقة بالاعتمادات المقدرة للكادر الجديد.
هى ذات القصة المتكررة فى مصانع الحديد والصلب والنسيج والصحافة القومية، حيث تدهور الإنتاج من الصلب، وعجزت المصانع عن المنافسة، وتراجع توزيع الصحف والمجلات، ومع ذلك فالمطلوب الضغط على حكومة بلغ العجز فيها ٢٤٠ مليار جنيه لكى تفى بمطالب العمال والموظفين، أو الاقتراض من البنوك العامة لكى تفى بمطالب الإداريين والعمال والمحررين.
على خلفية هذه الحالة التى لا تجعل بلدا ينمو أو أمة ترفع رأسها بين الأمم، منطق عجز كل الرؤساء السابقين عن مواجهته، بل إن منهم ساهم فى ترديده، وآخر قسم الأمر نصفين، فكان يشكو فى السر من منطق يجهر به فى العلن. المنطق يسير على الوجه التالى: أن جميع البشر- وكذلك المصرون- متساوون، ولما كان ذلك كذلك، فإن «العدالة الاجتماعية» وربما تضاف له «الكرامة الإنسانية» تستدعى الحصول على دخول متساوية. المنطق سليم من ناحية، فقد خلق الله «بنى آدم» على أساس المساواة أمام الله، وأمام الحساب فى الدنيا (القانون) والآخرة.
ولكن من ناحية أخرى، فإن الله خلق البشر بقدرات مختلفة، من حيث الموهبة والقدرة العقلية والعضلية، وخلال حياة الإنسان فإن هناك من يتعلم، وهناك من يبقى على جهله، وهناك من هو على استعداد للعمل لساعات طويلة، بينما آخر متكاسل لا يعمل، ولا يجتهد. المسألة فى النهاية تؤدى إلى اختلافات بين البشر، والمواطنين فى الدولة، وليس سرا على أحد أن الأقل قدرة وموهبة وتعليما وجهدا هو عادة من يصر على المساواة، ويعتبر ما عداه فسادا، بل إن المنطق ساد أن كل من اغتنى كان غناه نابعا من فساد، وكل من قاد كانت قيادته نابعة من نفاق، وكل من اخترع أو حصل على جائزة نوبل كان لرضا الإسرائيليين عنه.
النتيجة الطبيعية لهذا المنطق الفاسد أن أصبحت مهمة الدولة و(رئيسها) إدارة الفقر، وليس توليد الثروة، ولم تكن هناك صدفة أن ربع الموازنة العامة كان يذهب دعما للفقراء، والربع الثانى يذهب رواتب وحوافز ومنحا لموظفى الدولة الذين وظفوا أنفسهم فقراء من الدرجة الأولى، والربع الثالث يدفع فوائد لعجز الموازنة العامة الناجم عن الربعين الأول والثانى (سوف يصل العجز فى العام المالى الحالى إلى ٢٤٠ مليار جنيه)، الربع الرابع يكون لكل شىء آخر فى هذا البلد، من البنية الأساسية إلى الاستثمارات إلى سداد الديون الخارجية التى بلغت فى عهد الرئيس المعزول ٤٤ مليار دولار، بعد أن كانت ٣٢ مليار دولار فى عهد الرئيس المخلوع. الفارق بين الرئيسين ربما أن المخلوع ترك مصر وفيها أكثر من ٥٢ مليار دولار من الاحتياطيات النقدية، بينما تركها المعزول وبها ١٣ مليارا فقط لا غير معظمها إيداعات دول أجنبية. الفارق ما بين العهدين كان عهد الثورات التى أخذت من الاحتياطيات إلى الفئويات لكى تحقق المساواة المزعومة، فانتهى الوطن إلى حافة الإفلاس.
الرئيس المنتظر عليه مواجهة هذه المعضلة الكبرى، ما بين الحاجة الماسة إلى الموارد، والنزعة المروعة إلى توزيعها حتى قبل أن تصل إلى السوق. وما لا يقل خطورة عن ذلك هو أن تراثا كاملا لم يقم ضد الأغنياء فقط، وإنما ضد جماعة المستثمرين والعاملين فى مصر. فالأغلبية الساحقة من الاستثمارات التى جرت فى مصر خلال العقود الماضية، وتحديدا منذ عقد السبعينيات، قامت على أكتاف المصريين، ولم تعرف مصر استثمارا أجنبيا كثيفا، وفى قطاعات متعددة، إلا خلال السنوات الخمس السابقة على الثورة الأولى. وخلال هذه الفترة ثبت وجود قدرات هائلة فى مصر لم تشمل- كما ذاع- القطاع العقارى أو الصناعات الاستهلاكية، وإنما امتدت إلى الصناعات الثقيلة فى الحديد والصلب والأسمنت والأسمدة والسيارات والإلكترونيات بأنواعها والصناعات الدوائية وغيرها، وهذه كلها تواجدت فى أكثر من ٣٠ مدينة جديدة.
وربما نعود إلى تفاصيل ذلك فيما بعد، ولكن الرئيس الجديد سوف يكون عليه مواجهة الهجمة التى ألمت بهذه الثروة المصرية القابلة للتطوير والانطلاق، بعد أن يرفع عنها لعنة البيروقراطية وموظفى الدولة، والعمالة التى تريد التعامل معاملة موظفى الدولة. ويمكن للرئيس أن يقاوم الفقر، ويزيد من موارد الدولة، إذا ما نجح فى احتضان القطاع غير الرسمى الذى يقدر وفق أكثر التقديرات محافظة بنسبة ٣٥٪ من الناتج المحلى الإجمالى. هؤلاء فقراء، ولكنهم يعملون، ويجتهدون، ويحاولون العيش الحلال، ولكنهم مطاردون ملعونون من موظفى الدولة والعاملين فيها، ربما لأنهم يحصلون على دخلهم بالعمل والعرق، وليس بالحركات الاحتجاجية. الرئيس المنتظر عليه أن يفكر من الآن فى كيف يزيد ثروة الوطن، وتكون هذه الثروة لمن يستثمرها ويعيد استثمارها، ولكن يا ترى من يكون الرئيس القادم؟!
تقلأ عن المصري اليوم