بقلم: منير بشاى
كعادتهم في كل عام، جاء شعب كنيسة القديسين بسيدي بشر بالإسكندرية إلى كنيستهم، ليودعوا العام المنصرم، ويستقبلوا العام الجديد، وهم بين يدي الله وداخل بيت الله.
اقترب عام ٢۰١۰ بكل ما فيه من مآسي من نهايته. ووقف المصلون في كنيسة القديسين يتطلعون إلى العام الجدبد۲٠١١ بالتفاؤل الممزوج بالحذر، ويتمنون أن يكون أفضل من سابقه. أسرعت عقارب الساعة دورانها نحو اللحظة الفاصلة بين عامين. وفي تلك اللحظة عادة يسمع الجمهور صوت ناقوس يصدح معلنا بداية العام الجديد. ولكن صوت ناقوس هذا العام كان له وقع مختلف. فلم تمض دقائق بعد منتصف الليل إلا وسمع المصلون صوت انفجار هائل لم يسمعوا مثله من قبل فى رأس السنة. تزلزل مبنى الكنيسة وتساقط زجاج النوافذ على رؤوس المصليين، فارتفع الصراخ ممن أصيبوا، وساد الذعر الجمهور، من منظر الدماء التي أخذت تسيل.
وفي الفديو الذي سجل هذه اللحظة الرهيبة رأينا وسمعنا هذه الصرخات. ولكن معها أيضا سمعنا كلمة نطق بها كاهن الكنيسة مخاطبًا شعبه وقائلا لهم: متخافوش.
لا أعلم إن كان كاهن الكنيسة قد ألقى على الشعب عظة العام الجديد قبل وقوع الانفجار. ولكن شعب الكنيسة قد سمعوا من كاهنهم فى تلك الليلة بهذه الكلمة الواحدة أقصر وأبلغ عظة سمعوها فى حياتهم. فى كلمة واحدة سمعوا عظة كاملة فى موضوع يتمشى مع مناسبة العام الجديد وأيضا يعالج المشكلة التى واجهتهم فى تلك اللحظة المرعبة. فليس هناك من رسالة أكثر ملائمة لاحتياج الساعة يمكن أن يقدمها الكاهن لشعبه غير رسالة النصرة على الخوف. وليس هناك صياغة أكثر بلاغة وأقدرها إلى النفاذ إلى قلوبهم وعقولهم غير هذه الكلمة الواحدة: متخافوش. هى عظة لا أظنهم سينسوها مدى الحياة.
الخوف غريزة وضعها الله فى الإنسان، ليتجنب المخاطر ويؤمّن حياته مما قد يهدد سلامتها. والخوف من أقوى المشاعر التي تسيطر على الإنسان. والمخاوف تنصب عادة على ما يتعلق بالمستقبل والمجهول. والتمادى في الخوف يمكن أن يحول حياة الإنسان إلى شقاء. ولذلك فإن وصية "لا تخف" قد وردت فى الكتاب المقدس 366 مرة، بعدد أيام السنة. وقد جعل السيد المسيح موضوع معالجة الخوف من الموضوعات المحورية فى تعاليمه.
فبالنسبة للخوف من عدم الأمان في الحياة قال السيد المسيح "أليس عصفوران يباعان بفلس وواحد منهما لا يسقط على الأرض بدون أبيكم وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة. فلا تخافوا أنتم أفضل من عصافير كثيرة" (متى ۱۰:۲٩-٣۱).
وبالنسبة للخوف من القتل قال السيد المسيح "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها بل خافوا بالحرى من الذى يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما فى جهنم" (متى ۱۰:٢٨).
وبالنسبة للخوف من الحياة الآتية طمأن السيد المسيح تابعيه قائلا "لا تخف أيها القطيع الصغير لأن أباكم قد سر أن يعطيكم الملكوت" (لوقا ۱۲:٣۲).
ولكن الخوف من أشياء محددة يمكن أن يتحول إلى الخوف من أمور لا وجود لها. ويذلك يصبح الخوف فى ذاته هو المشكلة ويتحول إلى نوع من البرانويا.
قال الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في خطابه في احتفال تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة سنة ١٩٣٣ عبارته الشهيرة "لا يوجد ما نخافه غير الخوف ذاته". وكان الرئيس روزفلت قد قال هذه العبارة خلال المرحلة العصيبة التى كانت تمر بها بلاده نتيجة الانهيار الاقتصادي المريع الذى كان يهدد أمريكا بل والعالم كله. وقد كان لهذا الشعار الفضل في إحياء الروح المعنوية للشعب الأمريكي وإعادة الأمل لهم من جديد.
وقد أراد السيد المسيح أن يعالج في تلاميذه نفس هذه المشكلة. فذات مرة ألزم تلاميذه أن يدخلوا إلى السفينة ويسبقوه. وقصد هو أن يتأخر عنهم، واستمر غيابه طويلاً حتى غطى الظلام الكون. وفي هذه الأثناء هبت على السفينة الرياح العنيفة، ويذكر الإنجيل أن السفينة كانت وسط البحر "معذبة من الأمواج". ولابد أن التلاميذ أنفسهم كانوا أيضًا معذبين داخل السفينة، رغم أن بعضهم كانوا صيادين مهرة. واستمر يسوع في تأخيره حتى الهزيع الرابع من الليل. وفي وسط هذه الظروف القاتمة والخوف من الهلاك المحقق، نظر التلاميذ فإذا بمنظر غير واضح لشخص قادم من بعيد ماشيًا فوق الماء، فعندما رأوه اضطربوا ظانين أنه خيال. ويقول الإنجيل عن التلاميذ "ومن الخوف صرخوا". كان صراخهم ناتج عن خوفهم أي أن الخوف فى ذاته كان مرهبًا ومريعًا حتى أنهم صرخوا من هوله. وهنا جاءت كلمات السيد المسيح تطمئنهم وتعالج خوفهم وتؤكد لهم أن من يرونه لم يكن خيالاً بل هو المسيح ذاته "تشجعوا أنا هو لا تخافوا" (متى ۱٤:۲۲-۲٣).
و نفس هذه الكلمات يقدمها السيد المسيح لكل من يعانى الخوف نتيجة ما حدث فى الدقائق الأولى من عام ۲۰١١. الذين استشهدوا قد ارتاحوا من كل خوف لأنهم مع المسح. أما الجرحى، جسديًا، والجرحى نفسيًا، والأهل والأصدقاء، وجميع الشعب القبطي المتألم، يقول السيد المسيح لهم "تشجعوا أنا هو لا تخافوا". أنا هو من سكن العاصفة، ومن مشى فوق الماء، ومن اخترق الأبواب المغلقة. أنا هو من أقام الموتى، وشفى المرضى، ومسح عيون الباكين. أنا هو من فدى البشرية على الصليب، و قهر الموت، وصعد الى السماء وجلس عن يمين العظمة ليشفع في تابعيه، وسيأتى ثانية ليأخذهم إليه وينهي كل آلامهم ومخاوفهم.
وهي نفس رسالة الأب الكاهن لشعب كنيسة القديسين، في تلك اللحظة المريعة، ألقاها بعفوية ودون تفكير، وفي كلمة واحدة: متخافوش.