بقلم: محمود عزت
في زمن الأزمات التي قد تمر بها الأمم، تبدو الأوهام والخيالات والخزعبلات والخرافات وكأنها حقائق علمية واجبة التصديق، وتختفي وراءها ضباب من مشاعر الضعف واليأس والاستكانة أمام الآخر أيًا كان.. وتتبدى وتنمو ظواهر التبلد والتخلف والميل إلى الدعة والسلبية!
هاجمتني هذه الخواطر القاتمة بعد أن فرغت من قراءة كتاب يحمل عنوانًا جذاب "حكومة العالم الخفية"! منسوب لكاتبه الجنرال السلافي (هكذا تم توصيفه) شيرب سبيروفيتش، مات مختنقًا ومسمومًا بالغاز في غرفته بفعل "اليد الخفية" –وهكذا استنتج مترجم الكتاب إلى العربية ويدعى أحمد راتب عمروشي- بسبب إماطته اللثام عن حكومة العالم الخفية من خلال نشر هذا الكتاب!!
والكتاب يمثل تكريسًا وترسيخًا لنظرية المؤامرة الشهيرة في أدبيات العلوم السياسية..
وهي النظرية التي تعزو إحداث ووقائع تاريخ العالم لتبرير ووقوع سلسلة من المؤامرات تحيكها قوى وجهات خفية مجهولة..
فالكتاب يطفح بأوهام يسوقها المؤلف الجنرال لتأكيد ما يراه ويؤمن به إيمانًا قاطعًا بأن "الماسونية" ربيبة الصهيومية العالمية طبقًا له، ووسيلتها في تحقيق أهدافها.. وراء كل المؤامرات التي أطاحت وتطيح وستطيح بالحكام ملوكًا كانوا أم رؤساء الذين يستهدفون إيذاء اليهود أو حتى المساس بمصالحهم.
تبدأ الأحداث التي يرويها مؤلف الكتاب من داخل غرفة قذرة حقيرة في منزل عتيق يقع في إحدى امبراطوريات العالم قرب اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وقد جمع أب هرم أولاده الخمسة وهو على فراش الموت يوصيهم بأن الاتحاد قوة! ثم يقوم بتوزيع تركته من دول العالم القوية عليهم، ليصبح كل واحد منهم حاكمًا لها دون حكامها الحقيقيين، شارحًا لهم أن التحكم في اقتصاد هذه الدول من خلال مصارفها أو بنوكها سيكون وغيره من الأدوات السبيل الوحيد لإحكام السيطرة عليها!
وتجري وقائع هذا الاجتماع الغامض بين الرجل وأولاده قبيل الحرب العالمية الأولى، والتي يجعلها المؤلف أولى ثمار مؤامرة هؤلاء الأولاد –أو اليد الخفية كما يسميها- وكأن أطراف الحرب أنفسهم بلا دور حقيقي في إيقاعها، وما هم إلا أدوات بين أصابع "اليد الخفية"!
وأود أن أبين منذ البداية أنني بالرغم من رفضي لتحليل وقائع التاريخ وفقًا لنظرية المؤامرة، بيد أني لست أيضًا أنفيها مطلقًا، باعتبارها أحد النظريات السياسية المعتبرة في تفسير التاريخ مقابل التفسير المادي للتاريخ الذي يجعل من أدوات الإنتاج وتطور ملكيتها بين أفراد المجتمع والدولة، أساسًا لتطور التاريخ، وكذا المدرسة القانونية في تفسير التاريخ التي تجعل من تطور أحكام القانون في المجتمع أساسًا لتطور المجتمع.. وغيرها من نظريات تطور التاريخ وتفسيره..
فرفضي أو استبعادي لنظرية المؤامرة مبعثه هو أنه برغم أن المتآمر أو المؤامرة لا خلاف على وجودها ضمن أساليب أخرى لتحقيق تطوير العالم، فإن لديّ تكييف مختلف لمفهومها ونتائجها عما يؤمن به المشايعون لها.. فأراها –من جهة- سببًا في إذكاء روح السلبية وإبراء الذمة من مسئولية الإنسان عن أفعاله، وتحملها بكل شجاعة، لتكون وسيلة للانطلاق إلى تصحيح الخطأ، والسعي إلى تخطي الأزمات الناشئة عن الفشل أو الوقوع في الفشل، ومن جهة أخرى أعتقد أن تنفيذ المؤامرة وإنجاحها لا ولن يتم إلا نتيجة مباشرة لخطأ اقترفه الطرف المجني عليه!
فكما يُقال في القانون الجنائي، أن "المجني عليه" قد يساهم بخطئه في وقوع الضرر الذي أصابه، فإن الأمة –بالقياس مع الفارق- أيضًا تتحمل قدرًا من المسئولية، فيما يقع عليها ويصيبها، وتساهم بضعفها وسلبيتها في تنفيذ المؤامرة وتحقيق أهداف حائكيها، وما ينشأ من أضرار مادية أو معنوية تلحق بها!!
ومن هنا فإنني أجد أن المشايعين لهذه النظرية ومروجيها إنما هم يعملون من حيث يدرون أو لا يدرون على إبراء ساحتهم أو ذمتهم أمام التاريخ، وعلى إراحة ضمائرهم من وخز أو شعور الذنب عما قصروا في القيام به حيال المؤامرة التي يدعون وقوعها بأيدي خفية أو ظاهرة ليس هناك فارق كبير.
وكما يقول الشاعر القديم:
أن كنت لا تدري فتلك مصيبة... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم.
وبالتالي فهم يقيدون القضية ضد مجهول بحيل متعددة أو أسبابًا كثيرة.. وإن كانت النتيجة واحدة، وهي التسليم بما وقع وان ما وقع هو مؤامرة لا دخل لنا بها.. فهم بريئون..
فأحيانًا "اليد الخفية" مثل صاحبنا مؤلف الكتاب الجنرال السلافي أو الاستعمار وأعوانه تارة أخرى، أو ضعف الإمكانيات حينًا ثالثًا! المهم ألا تكون هناك مسئولية تقع لدى الطرف المُحاك ضده المؤامرة.
لا أظن أن هذا الميل تجاه إلصاق وتعليق الأخطاء التي نرتكبها وإلقاء التهم على جهات مجهولة، يعد أسلوبًا سليمًا لمعالجة الأزمات التي تقع لنا.. فالمواجهة والمكاشفة والمصارحة هي السبل الكفيلة بما يلم بنا من أزمات ومشاكل، فإذا أضيف إلى ذلك ممارسة "نقد الذات" دون جلدها أو تعذيبها بصورة مرضية، لكان منفذًا ناجعًا للتعرف على نقاط الضعف فينا لتقييمها وتطويرها إلى الأفضل، ونقاط القوة بغية تنميتها دون مبالغة في تقييمها بما يُعمي عن القدرة الواقعية الأمة.. فلا تهويل ولا تهوين.. مما يعطي صورة حقيقية تسمح بالتعامل مع الواقع المعاش بشكل ملائم لما نعرفه عنه وعن أنفسنا.
وينبغي أيضًا التأكيد على ضرورة تبني أسلوب علمي في حياتنا العامة أو الخاصة، وإيلاء اهتمام ملائم للواقع المادي، فضلاً عن القيم الروحية والأخلاقيات التي تتمير بها مجتمعاتنا.. فإذا أصلحنا أنفسنا أفرادًا، صلح المجتمع كله، وشاعت مفاهيم العلم وأساليبه في دراسة المشاكل وتأصيلها وتشخيصها بدقة، وتحديد البدائل المختلفة لحلها والخروج منها..
إذا تم هذا.. كانت الأمة في أمان من المؤامرات والمتآمرين، وأصبحت في مأمن من نظرية المؤامرة!ساسًا
دبلوماسي مصري