نصر القفاص | السبت ٢١ ديسمبر ٢٠١٣ -
٢٤:
١٠ ص +02:00 EET
خالد محيي الدين
الحياة اختيار.. مبدأ تعتنقه أقلية ضئيلة على أرض الله الواسعة.. المواقف ثمنها فادح، لا يدفعه غير المؤمنين بقيمتها.. الكلمة سيف، لا يقطع رقبة المتعبدين فى محراب الصدق.. السياسة أخلاق عند من يمارسونها على طريق «دراويش» الثقافة والفكر من ذوى الخلفية العسكرية!!
صعب أن تبدأ حياتك ضابطا، وتنتهى أستاذا.. وصعب أن تكون فارسا، تتألق فى إدارة المؤسسات الصحفية.. وصعب- أيضا- أن تعتنق الشيوعية دون أن تتخلى عن نزوعك للصوفية.. وغريب أن تزهد فى القوة رغم قوتك.. كما أنه مثير أن تكون ثريا، فتزداد تمسكا بالانحياز للفقراء.. وإن كنت ثائرا يفكر بالعقل فى ريعان الشباب، فأنت إنسان لا يتكرر كثيرا.. بل قل نادرا.. تلك صفات تضفى على صاحبها احتراما يستحقه، وتطير به إلى فضاء التاريخ ليعيش فيه «خالدا»!!
«خالد محيى الدين» ابن الأثرياء.. الذى اختار الانحراف لحياة العسكرية الشاقة.. هو ضابط احترم عقله، فأنفق وقته قارئا وباحثا عن الحقيقة.. ذهب إلى طريق الثورة، مؤمناً بأن النهاية لابد أن تكون حرية وديمقراطية وعدالة اجتماعية.. دفع الثمن فادحا وكاملا من رصيده فى بنك القناعات.. صعدت به إرادته للقمة، وألقت به فى القاع.. أعلن الرضا الكامل عن نتيجة اختياره.. احترمه «أسانسير» الحياة.. فكان يصعد به إلى حيث يشاء، ويهبط فى سكون كلما حاول أعداؤه تعطيله!!
الضابط «خالد محيى الدين».. تفاخر عندما وصفه «جمال عبدالناصر» بأنه «الصاغ الأحمر».. لاعتزازه بأنه أهلاوى عتيد.. الوصف كان مقصودا به تأليب المجتمع ضده، وإشارة إلى أنه يؤمن بمبادئ العدالة على الطريقة الشيوعية.. أدمن التمرد على التخلف.. احترف البحث عن الديمقراطية.. عاش على أمل رسم صورة لوطنه تحفظها مخيلته.. قاتل لاعتقاده فى أن اليأس خيانة.. لم تغير «سويسرا» شخصيته، لأن مصر كانت وطنا يعيش فيه.. إيمانه بالشعب فرضه نائبا عن الأمة، وسخريته من تزوير إرادة الناس جعلت كائنا إخوانيا يهزمه بعد تواطؤ مع نظام «حسنى مبارك».. حارب صابرا وصاخبا فى هدوء مثير.. انتصر لأفكاره بتأسيس حزب التجمع، وقرر إعادة مشوار الحياة ليكرر إصراره على المبدأ والمنهج.
السياسى «خالد محيى الدين» يتضاعف بريقه بمرور الزمن كالألماظ.. قيمته لا تخسر فى بورصة الأخلاق.. يحترمه الناس وإن انصرفوا عن أفكاره ومبادئه، بحثا عن أرباح السوق أو لحظات النشوة المؤقتة.. ترفق دائما بالمجتمع مهما كان قاسيا عليه.. فرض على الوطن تقديره كلما سمعوا اسمه أو اقتربوا من سيرته.. تحول إلى ناى حزين يحن لنغماته الباحثون عن السعادة طربا!!.. اختار طريق المعارضة ليعلم الحاضر كيف يكون المستقبل.. يقول كلمته ويدفع حياته ثمنا لكى تقول رأيك.. سيرته صنفته كمثقف وفيلسوف صادق وأمين، قبِل أن يكون مقاتلا وفارسا شجاعا.. لم يترك لغيره تقرير مصيره.. قدم للتاريخ حكاية اتساق مع النفس والفكر.. انسحب من الشارع بقرار شخصى.. توارى عن الأنظار، فتربصت به الأضواء.. جعل من نفسه مستقبلا يسعى إليه كل صاحب مبدأ وثائر، بشرط الصرامة عند تنفيذ قرار الاعتزال.
«خالد محيى الدين» الرقيق الشرس.. لا تفارق وجهه ابتسامة.. الشاب الجسور عاش متفائلا، مهما كان التيار ضده.. فى كهولته تحول إلى لوحة نادرة تهافت الجميع على الاحتفاظ بصورة منها.. وعندما داهمته الشيخوخة.. عاش حكيما مؤمنا بأن ما تركه خلفه يكفى الباحثين عن الاحترام شرف تقليده.. كل من عرفه اعتبره صديقا وشقيقا وأبا، وعاملوه على أنه ابن الوطن الاستثنائى.. كتب حكايته يوم أن قال: «الآن أتكلم».. وبقيت لديه كنوز لم يبح بسرها.
الأستاذ «خالد محيى الدين» استحق الصفة التى تسبق اسمه.. فهو فارس يجسد معنى الشجاعة.. مقاتل وهب حياته بحثا عن السلام.. ضابط مثقف.. عاش فى الدلتا، وحمل هموم النوبة.. أجبره اتحاد ملاك «صاحبة الجلالة» على أن يكون رمزا لمهنتهم.. تحفظ له مضابط البرلمان ما يتفرد به.. يتحاكى بتجربته شيوخ الدبلوماسية.. يدعو له المسلمون فى سهراتهم الصوفية.. تتباهى الديمقراطية بأنه رفع رايتها.. تنحنى له الشيوعية احتراما لدفاعه عن العدالة، فأصبح صاحب مقام يستحق أن يزوره المشتاقون لتكافؤ الفرص.. تألق حين انحرف فى «المساء».. ثم استراح فوق هضبة «الأهالى» وجعلها عنوانه.
«خالد محيى الدين» أعطى لعشرات السنوات.. لم ينتظر من أحد شيئا.. صدر لصالحه حكم من رئيس بدرجة قاض.. وكان طبيعيا أن يصله التكريم عبر مواطن اسمه «عدلى منصور»!!
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع