الاثنين ١٦ ديسمبر ٢٠١٣ -
١٠:
٠٩ م +02:00 EET
أَبوُنَا يُسْطُس الأَنْطُونيُّ الرَّاهِبُ الصَّامِتُ
بقلم : القمص أثناسيوس چورچ.
عاش سيرة زهد ونسك في تجرد عملي منقطع النظير ، فلم يكن له أين يسند رأسه ... غريبًا ونزيلاً ، لا قِنية له ولا زاد ولا زواد ، ولا هيئة له ولا منظر ولا مشيئة . فبالرغم من أنه عاش في القرن العشرين ؛ إلا أنه فاق كثيرين في حياة الفقر الاختيارﻱ ، وأرجع إلى الأذهان نماذج وأيقونات رهبان وسواح القرون الأولى ... صائمًا ساجدًا مصليًا متصلاً بالمسيح ملك القديسين في كل حين .
وقد أعطى الدرس بأن حياه القداسة ممكنه في كل جيل ، وهي ليست بمستحيلة ، لمن يطيع ويحيا ويلقي نفسه على الله الحي بالتمام ... عاش أبونا يسطس حياة الصمت المقدس عارفًا قيمة اللحظة ؛ فتمرس على الإمحاء التام تابعًا الفقير الأبدﻱ ، معتمدًا على المعونة الإلهية ... بلا مأوىَ ولا قوت ؛ عدا الفتات ... لا كرامة له ولم تكن نفسه ثمينة عنده ، مهتماً بالعمل والحياة أكثر من الاسم والشكل ، صائرًا كالملائكة بلا هَمٍّ ، وقد شق عنه ثوب العالم وبريقه ، ساكنًا مواضع الصديقين في جبل أنطونيوس الكبير .
شابه الشهداء في نسكه وإنكار ذاته ، واستشهاده البطيء والطويل الأمد ، كناسك وعابد ضمن الشهداء الذين بلا سفك دم ، وقد تركت أعماله النسكية علاماتٍ في وجهه وجسده ، وكان بركة وقدوة وقيمة مضافة لمن عاينوه وعاشوا في زمنه ، لامسين مجد الله وعطر القداسة في هذا الراهب الصامت البسيط .. الذﻱ صار هو في حد ذاته عظة مقروءة ، في عيشة الجهالة من أجل المسيح وفي سيرته العطرة الخفية ، كمزدرىً وغير موجود ، لكنه في ذات الوقت عرف قيمة الوقت ، وكيف أن الايام شريرة ؛ فسعى ليفتديها وليلحق بقطار الخلاص من غير تأجيل أو تهاون ؛ حاسبًا قصر الأيام .
وبينما كان يعيش في القلالي داخل الدير ، إلا انه كان كسُكان المغائر ، عائشًا في وحدة نفسية وفكرية ؛ مقتديًا حرفياً بالمسيح ... لا يتكلم قط إلا في السؤال عن الوقت (الساعة كام؟) متحفظًا على اللحظة وأهميتها لخلاص النفس ، الأمر الذﻱ جعله لا ينشغل بأﻱ حديث بشرﻱ عدا كلمات الشكر (نشكر الله) . وقد رُوﻱ عنه أنه كان يفر من الكنيسة بعد انتهاء صلوات السواعي ، حتى يكون أول الذين يخرجون منها كالسهم إلى قلايتة ؛ أو غالبًا يهيم لينفرد بالعريس الإلهي ؛ حيث كانت لذته العظمى في قوة السكون ... معتبراً أنه رجل ميت ، وأن له في القبر سنين ... والميت لا يتكلم ، متممًا قول داود النبي (صرتُ كبهيم عندك ، ولكني معك كل حين) مز ٧٣ : ٢٢ .
لقد تبعته آيات وأمجاد أظهرها الله في إنائه البسيط ؛ وتأثر بسيرته نفوس كثيرة من المؤمنين ، وبثبات حياته التي سُمعت فيها الكلمات التي لا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها ، وإن شرب شيئًا مميتًا لم يضره .
وأعتقد أنه لو تُركت الثياب التي كان يرتديها لأيام ؛ ما رضي أحد يأخذها ، لحالتها الرثة والمهلهلة والموصولة بخرق ؛ حسب ناموس البرية الجوانية ، التي سكنها أطهار السيرة الذين صانوا عهد الرهبنة ، إلى الحد الذﻱ فيه تصالحت معهم الوحوش ومسكوا الحيات والعقارب بأياديهم دون أن تؤذيهم .
والكنيسة كلها اليوم تنظر إلى نهاية سيرته لتقتفي طريقه ، شغوفة ودائمة السؤال عن انطباعات هذة الشخصية التي لن تُمحى ، محتفلين بذكراه ، حيث مقصورة جسده (المرتيريوم) التي شُيدت تخليدًا لتذكار حياته ورقاده الذﻱ أرضى بهما القدوس ، وقد رأينا أغصان شجرته وأولاده كفروع خارجة من الأصل ، مليئة بالثمرات الروحية ... واثقين أن روحه الطاهرة وبركته لم تبارحنا ...
اطلب من الرب عنا يا أبانا يسطس الجوهرة الأنطونية لكي ينعم الله لنا بغفران خطايانا .