بقلم : سامي ابراهيم
لا تزال البنية الداخلية للمجتمع السوري ترتكز على القيم والعلاقات المبنية في نظام الاستبداد، فعلاقات القرابة والعشيرة والحالة الدينية والعقائدية والأثنية هي السمة البارزة في تكتلات القوى السياسية وتجمعاتها. ولم يستطع العقل السوري التخلص من منظومة القيم التي ألف الحياة في كنفها عشرات السنوات، نفسها منظومة التخوين والعمالة ورفض الآخر وإقصائه.
ومن هنا فإن قوى المعارضة أنتجت تراكيب وممارسات متناقضة في الطرح والممارسة، وبالتالي فإنها تُصّدر وعيا غامضا متناقضا متضاربا لدى الإنسان السوري الذي أصبح يائسا تائها خائفا من مستقبل مجهول عمّق التوجه الأيديولوجي الأصولي والمتطرف، لتبرز على السطح معضلات لا تتوانى عن دق نعش ثورة شعب أراد الحرية والكرامة والحياة الرغيدة.
تتفاقم مشكلات تأخير انتصار الثورة أكثر فأكثر، لتتحول إلى تساؤل مشروع، يراود عقل السوري كل يوم: “ما النتائج التي تم تحقيقها إلى حد الآن”:
علينا الاعتراف بأن نتائج الصراع الكارثية في سوريا تهدد جدوى الثورة وقدرتها على الاستمرار أو الانتصار.
لن تقتصر النتائج الكارثية على خسارة مليارات الدولارات بتدمير كامل البنية التحتية بالإضافة لملايين المنازل وتهديم مئات المصانع، ناهيك عن تدمير آلاف الورش الصغيرة التي كانت تضخ المواد للسوق وتوفر الوظائف، لن نتكلم عن مئات الآلاف من المعاقين الذين يحتاجون العناية الخاصة وباتوا عاجزين عن أن يكونوا أعضاء فاعلين في المجتمع، أو عن مئات الآلاف بين مقتول ومفقود ومغيّب ومعتقل وما يمكن أن يترك من أثر سلبي على أجيال المستقبل التي تتربى على الحقد والكره والانتقام من الطرف الآخر، أو عن هجرة آلاف العقول من أطباء ومهندسين واقتصاديين وفيزيائيين وحقوقيين…، حيث تم تفريغ سوريا من اغلب أكادمييها ومختصيّها وعلمائها، ولن تقتصر المشكلة على آلام وأوجاع المشرّدين والمهجّرين في مخيمات الموت والبرد والجوع والمرض والذل، تتعمق المصيبة أكثر فأكثر :
التوزيع الديموغرافي الجديد الذي تمثل بهجرة مئات الآلاف إلى الخارج، وتفريغ مناطق ومدن كاملة من سكانها الأصليين واقتلاعهم من الجذور، بات يهدد “الهوية السورية الوطنية”.
فتواجد آلاف المقاتلين على الأرض السورية من مختلف أصقاع الأرض سيخلق مشكلات مستقبلية لسوريا وللمنطقة، هم قدموا مُحمّلين بأيديولوجية دينية متطرفة قائمة على العنف والدموية، تُقصي الآخر وترفضه، لتطرح إشكالية التعامل معهم وإشكالية مستقبل الديمقراطية والحرية في كنف هؤلاء وهم يمتلكون جميع عناصر القوة.
تُفرز مشكلة “تهديد الهوية السورية” مشكلة التبعية واستقلالية القرار الوطني السوري، فكيف يمكن بلورة قرار وطني خالص بعيد عن كل هذه الأجندات والتجاذبات والتحالفات والتكتلات والتصدعات والخلافات.
عندما لا يكون القرار وطنيا فهذا يعني انه سيخدم مصالح وأجندات الدول التي تصدر هذه القرارات وبالتالي لن يخدم الشعب السوري وهذه معضلة كبيرة أيضا تنذر بناقوس الخطر الذي يدق معلنا فشل الثورة.
على ضوء تلك الاشكاليتين تنبثق مشكلة اجتماعية ثقافية متمثلة بشقين أساسيين: العلمانية والإسلام السياسي.
اقتصرت الحركة العلمانية في سوريا على نخب مثقفة انتهجت التنظير والنقد للظواهر الاجتماعية، لم تلامس نبض الشارع.
هناك فجوة وهوة كبيرة بينها وبين الغالبية الساحقة من الشعب، فشلت في رفع مستوى الوعي الشعبي وجعله قادرا على التحليل للظواهر والمشكلات بشكل موضوعي.
حاولت الحركة العلمانية في سوريا أن تعطي نموذجا وحلاًّ غربيا للمجتمع السوري، فكانت النتائج كارثية وعكسية.
الوعي التراكمي لدى السوري خلق نمطية معينة وكوّن منظومة فكرية “عرقية دينية” تحدّد سلوك السوري ومنهجيته، وعندما جاءت الحركة العلمانية حاولت تقديم نمط مختلف ومغاير لما هو سائد تجاهلت رواسب مئات السنين من التاريخ والأفكار الدينية المتجذّرة، وتناست واقع التقسيمات الطائفية والاثنية والاختلافات الأيديولوجية بين مكونات المجتمع السوري، فظهرت ردة فعل أدت لخلق حركات أصولية متطرفة ساهمت في تعميق الشرخ بين مكونات الجسد السوري.
فشلت الحركة العلمانية التي تبنتها الأحزاب اليسارية والقومية في تحقيق انسجام بين ما تطرحه من أفكار في الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة والعيش المشترك من جهة وما تحمله من أيديولوجيا شمولية الغائية اقصائية من جهة أخرى، ففي الوقع ما هي إلا نموذجا مصغّرا لديكتاتوريات حكمت شعوبها بالحديد والنار، والتاريخ زاخر بالأمثلة، لا بل ماتزال قصص إجرامها وسجونها واستبدادها يردد على مسامع الأجيال، وما تزال الدماء السورية تسيل انهارا في شوارع سوريا.
في المقابل أصبحت الحركة المتطرفة الأصولية حركة شعبية تحرك مشاعر البسطاء وتتغلغل إلى الملايين الرازحة تحت وطأة القتل والتشرد والجوع والبرد والمرض.
هناك تناسب عكسي بين الحركة العلمانية والحركة الأصولية، فكلما فشلت الحركة العلمانية في تقديم حلول ورؤى وآفاق للمستقبل كلما أصبحت الحركة الدينية أقوى وأكثر رسوخاً وتموضعاً وسطوة في بنية المجتمع السوري.
من البديهي أن تتمسك الحركة الدينية بالإسلام، ولكن أي إسلام؟! الإسلام الذي تحيا في كنفه فئة أو جماعة معينة تعتبر نفسها ممثلة للإرادة الإلهية على الأرض وكل ماهو خارج هذه الجماعة كافر وغير مقبول، لذلك فإن الغالبية السنية المعتدلة ترفضها بالإضافة لجميع مكونات المجتمع السوري الأخرى التي لا تتقبل فكرة العودة للوراء مئات السنين للعيش في كنف تعاليم بائدة كونتها الخرافة والجهل والأوهام.
هذه الجماعة تنطلق من فكرة أنها تضحي في سبيل الشعب السوري، ولكن هذه التضحية ليست مجانية، لأنه بنظرها باتت الأحق في أن تحكم.
كان من الطبيعي من “أيديولوجية” تحمل كل هذا التطرف والعنف والدموية من أن تفرض قوانينها بالترهيب والتخويف، مدعومة من تأثير الحالة الدينية وعمقها التاريخي والظروف المريرة التي تمرّ على الشعب السوري من قتل وذبح وتهجير وفقر ومرض وجوع، لما يحمله الفكر الديني من تمنيات وأحلام لطالما كانت الأساس في نشوء المنظومة الدينية التي وجد فيها الإنسان البائس والشقي ضالته.
ولكن الحركة الأصولية المتطرفة ولو بدت منتصرة على الحركة العلمانية “على الأقل في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام” لكنه انتصار فاشل عاجز عن تقديم أي علاج للمشكلات البنيوية في المجتمع.
هي غير قادرة على تعمير البلد وإصلاح وإعادة بناء ما تم تدميره بفعل الحرب بسبب افتقارها للإمكانيات الفنية والعلمية والاكاديمية والمادية.
غير قادرة على بناء المؤسسات التي كانت تدير المجتمع بالإضافة للبنية التحتية وقطاع الخدمات.
وغير قادرة على نشر الديمقراطية والحرية لأنها بالأساس متناقضة مع أيديولوجيتها.
إذاً ماذا قدمت؟!
فقط هيئات شرعية، هذه الهيئات عبارة عن أشخاص يفتقرون للأساس والمنطق القانوني والحقوقي والعلمي، نصبوا أنفسهم قضاة يُصدرون أحكامهم على الناس، ويأمرونهم بما يجب أو لا يجب فعله!!
الحركة الأصولية المتمثلة في الفصائل المتطرفة التي سيطرت على مناطق في سوريا قدمت نموذجا مرعبا لما يمكن أن يحمله المستقبل لسوريا، هو نموذج عنيف استبدادي لا عقلاني لا يتناسب مع روح العصر، بعيدا عن قواسم العيش المشترك وبث روح التسامح.
الحركة الأصولية وبسبب طبيعتها البنيوية ستخلق مجتمعا مشابها للمجتمع السائد في ظل نظام الاستبداد، فعندما يكون هناك أمير سيكون هناك حتما عبيد، العلاقة ” امير _عبيد” لم تتغير في المضمون وبذلك نعود للدوامة نفسها، العنف والاستبداد والفرض وكم الأفواه والاعتقال، إلغاء للآخر، ولغة الحوار معدومة، ستكون ابرز السمات المعبرة عن المرحلة المقبلة في سوريا.
فهل يمكن القول بأننا سنشهد ثورة جديدة ضد كل ما يعيق تطلعات الشعب السوري في الحرية والكرامة، لطالما قدم الشعب السوري آلاف الأرواح على مذبح الحرية؟!