بقلم: عمرو عزت
ليست لدي أي أوهام عن وجود ما يسمى حرية العقيدة أصلا في مصر. وليست لدي أوهام عن قرب انفراج ذلك بسبب نصوص دستورية، ولكن ربما يحدث ذلك في ساحات معارك يخوضها من يريدون أن يعيشوا أحرارا وكراما مهما كانت عقيدتهم رغما عن أنف «السلطوية الطائفية الإسلامية» التي ترعاها الدولة المصرية عبر تاريخها وتذود عن حماها مشيخة الأزهر، ويتنازعان- كطرف واحد أو كطرفين- مع تيارات السلطوية الإسلامية على حق استغلال ميراث هذه السلطوية التي تسمى من باب التمويه: «الهوية الإسلامية».
ولكن قد يكون من المفيد أن نتناول بعض مواد مشروع الدستورالجديد المتصلة بحرية العقيدة لكي نعرف إلى أين وصلت معركة السلطوية الإسلامية بعد 30 يونيو مع مشروع الدستور.
في البداية لا يمكن قراءة تأثير نصوص مشروع الدستور على حرية الدين والمعتقد وعلى إشكالية الصدام بين النص على دين الدولة وشريعة دينية وبين سائر الحريات والحقوق، إلا على خلفيتين:
أولاها النظر إلى واقع حرية الدين والمعتقد وعلاقة الدين بالحريات في سياسات الدولة وقراراتها والإطار التشريعي الحالي المتصل بذلك، والأحكام القضائية التي ترسم حالة حرية الدين والمعتقد وعلاقة الدين بسقف الحريات والحقوق. وإلى أي أحد ستساهم النصوص الدستورية في السير في اتجاه تأكيد الحرية أو استمرار تقييدها أو فتح الباب أمام المزيد من التقييد والانتهاك.
أم الأخرى فهي النظر إلى التصادم الذي تصنعه نصوص الدستور نفسه، فصيانة وضمان وإطلاق حرية الدين أو الحريات الأخرى يتم النص عليها ولكن يأتي الانتقاص منها وتقييدها عبر نصوص أخرى.
وعلى الخلفية الأولى يمكن القول باقتضاب إنه لا توجد أرضية قانونية وتشريعية مستقرة بالأساس تضمن حرية الاعتقاد في مصر، بل الأساس هو التقييد والتمييز، وتأتي السوابق القضائية لتكرس ذلك.
فبالرغم من النص على ضمان وكفالة حرية الاعتقاد في الدساتير المتعاقبة فإن الدولة تقيد تماما أي تحول ديني من الإسلام إلى أي اعتقاد آخر، وترفض الاعتراف به في الأوراق الرسمية وتؤيد أحكام القضاء ذلك وتقدم حيثيات تستند للمادة الثانية التي تنص على كون الإسلام هو دين الدولة، والشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. وتحتكر الدولة قانونا ممارسة الشعائر الإسلامية في المساجد، ولها حق تقييد أي نشاط ديني يخالف رؤية الحكومة، بل يعاقب القانون أي ممارسة للخطابة والدعوة في المساجد بغير ترخيص حكومي. وتمارس الدولة التمييز والتقييد الكامل لممارسة الشعائر لأي طوائف إسلامية بخلاف المذهب السني. وبشكل متكرر يتم استخدام القانون في توجيه اتهامات بترويج «أفكار متطرفة» و«ازدراء الأديان» في مواجهة بعض محاولات التجمع وممارسة شعائر أو التعبير عن المذهب الشيعي أو الأحمدية أو البهائية. ولا توجد أرضية قانونية للمواطنين من غير أبناء الديانات الثلاث لممارسة حق الزواج ولا يوجد أي تنظيم لأحوالهم الشخصية، إلا باضطرارهم إلى الادعاء في الأوراق الرسمية أنهم من أبناء الديانات الثلاث.
ولا توجد أرضية مدنية للأحوال الشخصية، وترفض الدولة ضمان حرية المواطنين المسيحيين في الطلاق والزواج الثاني؛ لأن ذلك يخالف رأي الكنيسة، ولا توفر لهم أرضية أخرى لممارسة حرياتهم كمواطنين بعيدا عن الكنيسة.
وتكرس القرارات الإدارية المتبعة وأحكام القضاء التمييز ضد الطوائف المسيحية في بناء دور العبادة باستمرار اشتراط موافقة رئيس الجمهورية على تراخيص بناء كنائس جديدة، امتدادا لـ«الخط الهمايوني» الصادر عن الخلافة العثمانية عام 1856م.
وعلى مدى عقود، قامت الدولة والبرلمانات المتعاقبة ومختلف المحاكم باستشارة الأزهر في الشؤون الدينية فيما يمس حرية التعبير، وفيما يمس حقوق المواطنين من أديان مختلفة. وأيضا تستشير الكنيسة الأرثوذكسية فيما يخص «الاعتراف» بطوائف مسيحية جديدة مختلقة معها. ويعاني أبناء طائفة «شهود يهوه» من التمييز في ممارسة شعائرهم وفي تسجيل زواجهم.
هذا الوضع أراه امتدادا لحالة دولة الخلافة التي هي «دولة المسلمين». وامتداد لوضع قانوني لا علاقة له بأي أرضية قانونية للمساواة وحرية الاعتقاد. بل هو تعبير مباشر وفج عن «سيادة المسلمين على غيرهم»" وحصر «المعترف بهم من غير المسلمين» في طوائف محددة لهم حقوق محددة داخل أسوار طوائفهم، ويتم تحديدها من خلال «شريعة المسلمين» ثم سلطة المؤسسات الدينية على طوائفها.
وهذا الوضع استمر بغض النظر عن انفصال الدولة المصرية عن «دولة الخلافة» وبرغم كتابة دساتير متعاقبة نصت على أن حرية الاعتقاد مكفولة ومصونة، وبرغم تأسيس جمهورية تقوم على مبدأ المساواة بين المواطنين. وهو ما يعني أن «السلطوية الطائفية الإسلامية» ظلت أحد أعمدة السلطة والسيادة في الدولة المصرية بما لا يسمح للمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان بأن تخترقها. لتستمر «سيادة المسلمين على غيرهم»، وتؤكد كل سلطة أهمية وضرورة حماية «الهوية الإسلامية» لمصر.
وفيما يبدو أن دستورا تتم كتابته بعد «إسقاط سلطة الفاشية الدينية» لم يستطع كاتبوه أن يحيدوا عن هذا المسار. بل احتاج في معركته مع «الفاشية الدينية»- التي كانت لا تزال تتشكل- أن يؤكد أنه راع وأمين على «السلطوية الطائفية الإسلامية»، حبا أو خضوعا لابتزاز ممثلي الأزهر والسلفيين. لتأتي صياغة مادة حرية العقيدة مماثلة في سوء صياغتها لنظيرتها في دستور «الفاشية الدينية».
فصياغة مادة حرية العقيدة في دستور 2012 ناقضت المساواة بين الناس وأحدثت تمييزا بينهم، كون حرية ممارسة الشعائر الدينية وبناء دور العبادة مكفولا لأبناء الديانات الثلاثة المسماة السماوية، وينظمه القانون.
استمرار الصياغة السيئة يسمح بغطاء قانوني لمداهمات لمنازل الشيعة والبهائيين أو أصحاب أي عقيدة أخرى أو مذهب إسلامي آخر وتجريم اجتماعاتهم الخاصة المحدودة بتهمة ممارسة الشعائر الدينية على خلاف ما ينظمه القانون، والقانون لا ينظم شيئا في الحقيقة غير حق الدولة في السيطرة على كل المساجد. كما يمكن أن تعطي هذه الصياغة غطاء قانونيا لتجاهل الدولة الزواج الديني البهائي بوصفه شعيرة دينية تتعامى الدولة عنها ولا ترغب في رؤيتها وتدعو مواطنيها من البهائيين للكذب وادعاء كونهم مسلمين أو مسيحيين أو يهودا للاعتراف بزواجهم وبأطفالهم، أو تطالبهم بالاختفاء لأن «الهوية الإسلامية» لا تريد أن تراهم.
باختصار: هذه الصياغة تسمح باستمرار الوضع المتردي وتفاقمه. وتمثل المزيد من الإعاقة لجهود المطالبين بحرية العقيدة وإقرار المساواة بغض النظر عن الدين.
في المقابل يمكن القول إن حذف مواد «تفسير مبادئ الشريعة» و«التعرض للأنبياء» و«تقييد ممارسة الحقوق والحريات بمقومات الدولة والمجتمع» وحذف الجزء الخاص «بأخد رأي هيئة كبار العلماء في الأزهر بخصوص الشريعة»- هو حذف إيجابي يمنع من استخدام هذه النصوص في زيادة تردي الحالة المتردية.
وفيما يخص الأزهر فإن استمرار النص على كونه «المرجع الأساسي في العلوم الدينية» هو أمر لا علاقة له بالدساتير من الأصل. ولا يزال نص قانون تنظيم الأزهر ينص على أنه «المرجع النهائي في شؤون الإسلام». كما أن دور الأزهر في الاشتراك كمستشار في التضييق على الحريات الدينية وحرية التعبير كان موجودا قبل دستور 2012 وقبل تعديلات قانون تنظيم الأزهر في 2012. ووجود مادة تخصه بالأساس في الدستور هو شيء سلبي ويكرس من وضعه مؤسسة رسمية تشترك مع الدولة في تكريس الوضع السيئ لحرية الدين وحرية الرأي والتعبير، وليس مؤسسة علمية دينية مستقلة تتمتع بحرية الدين وحرية الرأي والتعبير. ويظل الوضع الاستثنائي للأزهر كحام ومعبر رسمي عن «الهوية الإسلامية» هو أداة في يد كل سلطة تشهره في وجه أعدائها وتدعم به سلطانها مستفيدة من «المشاعر الطائفية» ومؤكدة أنها «المعبر الحقيقي» عن «الإسلام الصحيح» ومن ناحية أخرى، مخلصة لسيادة المسلمين على غيرهم بالتضييق على مطالب المساواة وحريات الآخرين أو حريات المسلمين الراغبين في ديمقراطية حقيقية.
ولكن كل ما سبق هو نظرة لما قد يحدثه النص في علاقته بالواقع الفعلي. ولكن يتعقد الأمر عند النظر للنصوص الدستورية في مجموعها وفي مدى اتفاقها أو صدامها وهو ما يصل بنا إلى الخلفية الثانية الضرورية لقراءة نصوص الدستور، وهو ما سأناقشه في الجزء الثاني من هذا المقال.
نقلا عن : المصري اليوم