علي سالم | الأحد ٨ ديسمبر ٢٠١٣ -
٥٢:
٠٨ ص +02:00 EET
علي سالم
صحة الهدف لا تضمن وسيلة تنفيذه، عندما تضع استراتيجية صحيحة وتحاول الوصول إليها بتكتيك خاطئ، فلا بد أن ينتهي بك ذلك إلى عكس ما تريد. فالوصول مثلا إلى العدل الاجتماعي بوسائل خاطئة لا بد أن ينتهي بك إلى تحقيق أكبر قدر من الظلم، وفي أحيان كثيرة يخترع البشر أهدافا لا وجود لها أصلا، مستخدمين في ذلك سحر اللغة، هناك بالفعل في اللغة كلمات ساحرة مثل كلمة مجانا، غير أنها للأسف لا تشير إلى شيء موجود في الواقع. مجاني ومجانية كلمتان تشيعان الإحساس بالارتياح في قلوب البشر وتفتنان عقولهم ليكتشفوا في نهاية الأمر أنهم دفعوا ويدفعون دم قلوبهم في مقابل هذا الشيء المجاني، وأقرب مثال لذلك هو التعليم المجاني المزعوم. يقول الأميركان «لا توجد وجبة غداء مجانية - No free lunch» أما المثل الشعبي الدمياطي، وهو أكثر تطرفا وقسوة، فيقول «مفيش حاجة ببلاش إلا العمى والطراش» والعياذ بالله، وأنا أعتقد أنه يقصد أنه لا بد أن تكون أصم وأعمى لكي تصدق أن هناك أشياء مجانية.
الحكاية بدأت بجملة شهيرة للدكتور طه حسين، وهي أن التعليم كالماء والهواء، والمقصود بهذه الكلمات هو أن التعليم لا يقل أهمية عن الهواء الذي نتنفسه والماء الذي نشربه، غير أننا فسرناه على نحو مختلف، بما أن المياه يأتي بها فيضان النيل مجانا، وبما أننا لا ندفع فلوسا مقابل الهواء لذلك فالتعليم أيضا لا بد أن يكون مجانا. وبعد مرور سنوات طويلة اكتشف أولياء الأمور أن المدرسة لم يعد لها دور في التعليم وأن عليهم أن يقتطعوا جزءا كبيرا من أرزاقهم لكي يوفروا لأولادهم حدا أدنى من التعليم؛ ها هي الأم تخرج من عملها وتذهب مسرعة إلى البيت لتأخذ ابنها أو ابنتها إلى مدرس الرياضيات في منطقة المهندسين ثم تنتظرها في السيارة لتنطلق بها إلى المنيل حيث مدرس الطبيعة وبعد ذلك عليها أن تصطحبها إلى مدرس العربي في مصر الجديدة. ثم يتساءل الناس..
لماذا المرور مزدحم في القاهرة ليلا ونهارا؟ إلى أين يذهب هؤلاء الناس في غير مواعيد العمل؟.. يذهبون إلى الدروس الخصوصية. أما في المدن الصغيرة والقرى فالأمر يدعو حقا إلى الحزن، فكل الناس فقراء ومعظم المدرسين أثرياء يتظاهرون من أجل رفع مرتباتهم، حفظ الله لنا مجانية التعليم في كل مراحل التعليم، أقصد مراحل التجهيل. وقبل أن تفهمني على نحو خاطئ أقول لك: على الدولة أن تدفع تكلفة التعليم الابتدائي فقط. عند ذلك سيكتشف الناس أنهم يدفعون في المدارس الثانوية أقل بكثير مما يدفعونه في التعليم المجاني.
كلمة مجاني فيها عدوان على شرف اللغة، تماما ككلمة الأرباح في مصانع القطاع العام، لا توجد أرباح، توجد خسائر فقط ومع ذلك يثور العمال ويعتصمون في مصنع الحديد والصلب من أجل الحصول على الأرباح.
أستطيع أن أورد لك ألف كلمة فيها عدوان على شرف اللغة، كلمات خاطئة تحولت إلى أفعال ضارة وإلى قيود حديدية تكبل أيادينا وتكلبش عقولنا، يجب أن نكف عن الكذب على أنفسنا.
نقلا عن الشرق الاوسط
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع