الأقباط متحدون - المتحدثون والكوميديا
أخر تحديث ٠٠:٠٩ | الخميس ٥ ديسمبر ٢٠١٣ | هاتور ١٧٣٠ ش ٢٦ | العدد ٣٠٣١ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

المتحدثون والكوميديا

صوره تعبيريه
صوره تعبيريه

 أنا أنصح هذا الجيل من المهتمين بالشأن العام بقراءة إدوارد لين فى كتابه الرائع: (المصريون المحدثون، عاداتهم وتقاليدهم- Modern Egyptians، customs and manners) إنه المرجع العمدة للحياة فى مصر فى القرن التاسع عشر، الرجل لم يكتف بحروف الكتابة فقط، بل والرسومات أيضا، كتب عن كل شىء، ورسم بدقة كل شىء. غير أننى هنا سأتناول نقطة واحدة من بحر كلماته، وهى: (المتحدثون)، ففى وصفه المقهى تكلم عن فروع عديدة من فنون الحكى، أى هؤلاء الرواة الذين يحكون السير الشعبية وقصص البطولات، ثم تكلم عن المتحدثين الذين قدر عددهم فى ذلك الوقت على مقاهى القاهرة بخمسين متحدثا.

 
لم يتكلم الرجل عن مواضيع أحاديثهم، غير أننى بالخيال وحده أستطيع أن أقول إنهم كانوا يتكلمون عن الهم العام لرواد المقهى، ولكن كل هموم البشر ثقيلة على النفس إذا لم يتم تقديمها فى إطار مبهج، لابد إذن أن هذا المتحدث كان خفيف الظل قوى التأثير شديد الاستجابة للهم العام والألم والعام. لابد أيضا أنه كان قادرا على تفجير الضحكات بين رواد المقهى، أى أنه كان قادرا على اكتشاف الخطأ العام واستحضاره أمام جمهوره وإظهار ما فيه من عوار. لنتحرك إلى الأمام بسرعة لنقول إن ظاهرة الحكى بكل فروعها اختفت بعد ظهور ذلك الصندوق العجيب وهو الراديو. ولكن كلمة (المتحدث) ظلت موجودة فى قاموس الإذاعة والمذيعين، قبل أن تحل محلها كلمة «الضيف» التى تستخدم الآن فى برامج التليفزيون.
 
ولكن هل اختفت حقا ظاهرة المتحدث القديم الذى تكلم عنه «لين»؟ راجع جيدا برامج التليفزيون لتكتشف أن المتحدث غادر المقهى القديم ليحتل مكانا جديدا فى التليفزيون، ضاع العشرات منهم بين طيات الزمن، وبقى عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، أما المجيدون منهم فلا يزيدون على ثلاثة، لن أذكر لك أسماءهم، لكى لا أفرض عليك ذوقى الخاص. هم مهتمون اهتماما حقيقيا بالهم العام، وموهوبون فى طريقة طرحه على الناس، غير أنى أرى أنه لابد من الحديث معهم عن أداة مهمة من أدواتهم لابد أن يعيدوا النظر فى طريقة استخدامها وهى الكوميديا أو الفكاهة.
 
فى الكوميديا نحن نمسك بسلاح أبيض، وعلينا ألا نلوثه بالدماء، نحن لا نسخر من أحد، بل من شىء، الأخطاء العامة مختفية تحت أطنان من الكليشيهات والتعبيرات الزائفة أو المغلوطة، ولا سبيل إلى كشفها إلا بقوة النكتة، أو كما يسميها الكوميديانات «الإفيه» (Effect)، ليس الهدف من النكتة قتل المسؤول عن الخطأ، بل تنبيهه إليه لكى يكف عن ارتكابه، إنها مشكلة الصنعة. أنا أطلب منهم أن يجروا مراجعة سريعة لأعمال أريستفانيس وفولتير وموليير، ثم الكوميديات المصرية القديمة فى السينما والمسرح، لكى يعيدوا اكتشاف الصنعة بداخلهم. عليهم أيضا أن يتوقفوا طويلا أمام النكتة المصرية ليكتشفوا مدى ما بها من عطف وإنسانية.
 
الضحك ليس هو الهدف من صنعة الكوميديا، بل هو أحد نواتجها، الهدف الأصلى هو تنبيه البشر إلى أخطائهم التى تعطل مسيرتهم، ولذلك نحن لا نطلق النار على العدو للقضاء عليه، بل نوجه قذائفنا إلى السلاح الذى يحمله بيده أو يتمترس خلفه، لكى يشعر بأنه معزول وأعزل، المطلوب هو تجريده من سلاحه لكى يشعر بأنه ضعيف مثل بقية البشر، وأن عليه أن ينضم إلى قافلتهم المسافرة فى طريق الخير والحق والجمال.
 
اقترب من الضحك بحذر، واعلم يا عزيزى المتحدث الجديد، أن أسهل أنواع الضحك هى تلك التى تصنعها غريزة العدوان، وهى أقوى الغرائز داخل البشر. أنا أطلب منك مقاومة ذلك الإحساس اللذيذ الذى يدفعك للعدوان على الآخرين بوهم «حرية التعبير». لا تعطهم الفرصة لرد العدوان بعدوان أشد وأكثر وحشية وشراسة، استعن بالصنعة وبنبل الهدف عندما تصنع ضحكاتك، هذا هو بالضبط ما يجردهم من سلاحهم. لابد من «سبب» للضحك، لابد من خطأ تكشف النكتة عنه الغطاء، لابد من قضية (Cause) لاحظ أن الكلمة فى الإنجليزية تعنى السبب وتعنى القضية، وفى العامية المصرية الكلمة أيضا لها قدر من القداسة: (ربك مسبب الأسباب) يا بنى.. أنت تعمل فى مهنة نبيلة اسمها «الكوميديا».. لا تنس ذلك.
 
المصرى اليوم 

More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter