بقلم- القس. نصيف هارون
زادت حالة الإحتقان الداخلي التي تملأ صدور الناس في الشارع المصري بسبب غلاء الأسعار من جانب، والإحتياجات الكثيرة غير المتناسبة مع الدخل الضعيف والمرتبات القليلة من جانب أخر، وبسبب الظروف الإقتصادية الصعبة، بالإضافة إلي عدم رقي الخدمات التي تقدمها الدولة للشعب إلى المستوى المطلوب في كل الأصعدة، سواء في التعليم، وكلنا يعلم حال التعليم في مصر والمدارس والخدمات التعليمية والمناهج الدراسية.
أما عن الصحة حدث ولا حرج، وحالة المستشفيات العامة والحكومية – التي يتردد عليها الغلابة ومحدودي الدخل- والتي لا تحتاج لشرح لإثبات مدى الخدمة التي يحصل عليها المواطن العادي، وماذا أقول عن الإسكان أو المرافق، وكلنا يرى ويعاني حالة الزحام وسوء المواصلات والطرق، وخير دليل على ذلك حوادث الطريق التي راح ضحيتها العديد من الأبرياء الفقراء.
وإذا نظرنا إلى الذين يعيشون في الشوارع ليس فقط لأنهم بلا أسرة ولكن أيضاًَ لأنهم لا يجدون مكان أمن يأوي أبدانهم الضعيفة، وماذا عن رغيف الخبز الضروري لحياة الإنسان الذي أصبح الحصول عليه مجالاًَ من مجالات الإستشهاد في طوابير لا تنتهي أبداًَ، وماذا عن حقوق الإنسان... الخ؟
فهل الحل الذي لجأ إليه المواطن المصري المقهور، في التعبير عن الرأي بالإحتجاج حيناًًَ أو الإعتصامات والمظاهرات حيناًَ أخر، والملفت للنظر إنها نجحت في بعض الأحيان في رفع أو تخفيف الأعباء والمظالم عن كاهل الفقراء كما حدث مع عمال المحلة مثلاًَ، وهكذا أصبحت ظاهرة في المجتمع المصري وتحتاج إلى دراسة فيكاد لا يمر يوم دون أن تسمع أن إحتجاج أو إعتصام في كل المستويات إبتدءاًَ من رجال القضاء والمحامين، المدرسين والمعلمين، مروراًَ بالأطباء، والممرضين، والعمال، ومختلف النقابات، والصحفيين، ورجال الدولة ..الخ، وتعددت أسباب المظاهرات والإعتصامات فهذا لأجل كادر خاص، وذلك بحثاًَ عن المساواة والعدالة في توزيع المرتبات أو بحثاًًَ عن الماء والخبز الضروريين للحياة، أو لأجل إعتراض على قانون أو مادة في دستور..الخ، ولما كانت هذه الأحوال عامة على كل فئات الشعب المصري فالمسيحي يعاني والمسلم يعاني.
كان السؤال المنطقي ما هو موقف الإيمان المسيحي من الإشتراك في المظاهرات والإعتصامات؟
وما أقواله هو تعبير عن رأيي الشخصي الذي أستمده من خلال دراستي لكلمة الله. وأعبر عنه في نقاط محددة:-
1. الإيمان المسيحي يشجع على حرية التعبير عن الرأي والإيجابية في الحياة، ولكن دون تجريح في الأخر حتى لو كان الأخر مخطئاًَ، فالرب يسوع يدعونا للمحبة للجميع حتى للأعداء بل يوصي لإقامة صلوات لأجلهم (متى 5: 44). فالحب الصادق والعمل الجاد وحده قادر أن يغير وليس العنف أو القتل. فالمسيحية ترفض التعبير عن الرأي بأي شكل من أشكال العنف أو أي درجة من درجاته، سواء عنف لفظي أو معنوي داخلي "الحقد" أو عنف فعلي بالعمل والتخريب أو القتل، لأن القتل ليس حلاًَ بل تعقيداًَ، ويزيد الجريمة جرماًَ، ويزيد المشكلة تعقيداًَ كما قلت.
فإذا نظرنا إلي ما تم يوم الأحد والاثنين 6 و7/4/2008 في المحلة الكبرى محافظة الغربية في العام الماضي من أعمال تخريب وحرق وقتل وعنف وتدمير لكل شيء يصادفه المتظاهرون نكتشف عمق الإيمان المسيحي الذي يرفض أعمال التدمير لممتلكات الغير، ونقتنع بضرورة التعبير السلمي الإيجابي وليس الخوف أو التطرف، فما المنفعة التي جناها المتظاهرون من حرق المدارس؟ أو سيارات المدنيين أو حتى سيارة الإسعاف التي تشارك في تخفيف الآلام وإسعاف الناس؟
فهل ساعد حرق سيارة الإسعاف على حل مشاكل الصحة؟ والمنفعة التي عادت على المتظاهرين من حرق سيارات وتخريب وسائل المواصلات والقطارات؟ هل هذا هو الحل لمشكلة المواصلات التي نعاني منها أم هو تعقيد وزاد الطينة بله؟ وما فائدة حرق محال المدنيين ونهبها بعد تدميرها هل خفف حدة غلاء الأسعار..الخ؟
2. المسيحية لا تشجع على السلبية فالذين لا يشتركون لمجرد السلبية أو الخوف فهم لا يفهمون الإيمان المسيحي بشكل حقيقي وكامل، فالإيمان المسيحي يرفض السلبية والإنعزالية بكل أشكالها، فعندما سُئل المسيح أن يدفع الجزية لم يكن سلبياًَ، ودفع دون أن يعلن موقفه، ولم يكن متمرداًَ وعاصياًَ ورفض الدفع بل قال لبطرس تلميذه: "مِمَّنْ يَأْخُذُ مُلُوكُ الأَرْضِ الْجِبَايَةَ أَوِ الْجِزْيَةَ أَمِنْ بَنِيهِمْ أَمْ مِنَ الأَجَانِبِ؟ (متى 17: 25).... وهكذا أعلن الرب يسوع رفضه ولكن بطريقة إيجابية لم تعثر أحد وكذلك لم يتمرد، فهل نتعلم منه؟!
فعلى المسيحي الحقيقي أن يهتم بهموم الوطن ويصلي لأجله ويشارك في أحزانه وأفراحه، كما أن السلبية لمجرد السلبية لا تناسب الإيمان المسيحي القائم على التغيير الممكن حتى لأشر الخطاة فلا مستحيل أمام الإيمان المسيحي بل كل شيء مستطاع لدى المؤمن بثقته بالله وتنفيذ وصاياه ولكن لا يُفهم هذا الكلام على إنه دعوة للخروج للمظاهرات لمجرد المشاركة الإيجابية ولكن ما أريد أن أقوله أن المسيحي شخص إيجابي في المجتمع ولكن حسب قيم ومبادئ الإيمان المسيحي.
3. المسيحية ترفض المشاركة في المظاهرات التي تضر بمصالح الآخرين والتي تناقض قيم الإيمان أو تلك التي غالباًَ ما تخبو ورائها أجندة سياسية أو دينية ولا يكن لها مطالب إنسانية عادلة ويتم التعبير عنها بالطرق الشرعية. لذلك أدعو الذين يختفون وراء قيم التدين بالإمتناع عن تشويه صورة الدين بأعمال العنف والتخريب إلا إذا كان هذا الدين يدعو لمثل هذه الأعمال صراحة؟ وهنا أقول لكم دينكم ولي ديني، وأدعو أبناء ديني بأن يفتخروا بقيم إيمانهم وأن يعكسوا مسيحيتهم الإيجابية، لا للعزلة، لا للصمت، لا للخوف، لا للشعارات الجوفاء والحياة الممتلئة بالرياء.
فأبناء الله ينقادون بروح الله. نعم.. لفعل الصلاح... نعم لفعل الخير... نعم للإعتراض على الشر... نعم لهزيمة الشر بالخير، لأنك إذا ظلمت الظالم لن تكون أطهر أو أبر منه فكليكما ظالمين، وإذا سرقت السارق فلن تنجو من عقاب القانون المدني، وكذلك القانون الإلهي، بل أنت أيضاًَ لص وسارق مثله، بل تستطيع أن تغلب الشر والظلم بالخير والحب كما علمنا الكتاب "لا يغلبنك الشر بل إغلب الشر بالخير" (رومية 12: 21).
4. المسيحية تدعم وتنادي بالمواطنة الصالحة، وهي بساطة أن يعيش المواطن المسيحي الحقيقي في خضوع للقانون وأن يعمل لنمو وتقدم الوطن، فيقوم بكل الواجبات الموضوعة عليه، ويجب أن يتمتع بكل الحقوق والإمتيازات التي توفرها الدولة لمواطنيها، فهناك عشرات النصوص الكتابية التي تعلم عن المواطنة الصالحة والسلوك المسيحي نحو القادة والحكام، فكما نقرأ في رسالة الرسول بولس لرومية عن ضرورة الخضوع للسلاطين والحكام ليس خوفا للأعمال الصالحة بل الشريرة، بمعنى أن من يفعل الصلاح يجب أن لا يخاف بل له المدح، ويذهب الرسول بولس إلى ما هو أبعد من ذلك ومعلماًَ أن الدافع وراء فعل الصلاح والخضوع للحكام والسلاطين ليس فقط لنوال المدح أو الثواب أو تجنب العقاب بل لأن السلاطين الكائنة مرتبة من الله – سواء كانت خيرة أو شريرة- فكل شيء يتم تحت السماء له قصد في إرادة ومشيئة الله الصالحة.
ومن ناحية أخرى يستند الرسول بولس إلي الضمير المسيحي الحر مخاطباًَ المؤمنين بهذه الكلمات: "لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِين الْفَائِقَةِ لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ. حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَةً. فَإِنَّ الْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفاً لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ لأَنَّهُ خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ! وَلَكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثاً إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ. لِذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يُخْضَعَ لَهُ لَيْسَ بِسَبَبِ الْغَضَبِ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً بِسَبَبِ الضَّمِيرِ" (رومية 13: 1- 5).
5. كما يدعونا الكتاب المقدس إلى الصلاة لأجل جميع الذين هم في منصب، ليس فقط للخضوع للحاكم وجميع الذين هم في منصب، فيقول الكتاب: "فَأَطْلُبُ أَوَّلَ كُلِّ شَيْءٍ أَنْ تُقَامَ طِلْبَاتٌ وَصَلَوَاتٌ وَابْتِهَالاَتٌ وَتَشَكُّرَاتٌ لأَجْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، لأَجْلِ الْمُلُوكِ وَجَمِيعِ الَّذِينَ هُمْ فِي مَنْصِبٍ، لِكَيْ نَقْضِيَ حَيَاةً مُطْمَئِنَّةً هَادِئَةً فِي كُلِّ تَقْوَى وَوَقَارٍ، لأَنَّ هَذَا حَسَنٌ وَمَقْبُولٌ لَدَى مُخَلِّصِنَا الله" (تيموثاوس الأولى 2: 1-3).ِ والإنسان عندما يصلي لأجل لملوك يعلن محبته للوطن والحاكم ويطيع أمر ووصية كتابية وهذا حسن ومقبول لدة الله، فأنت لا تصلي لأجل شيء لا تحبه فعندما تحب خدمتك أو كنيستك أو مجتمعك أو رئيسك تقدر أن تصلي لأجله وهذا ما قاله الرب يسوع "أحبوا أعداءكم...صلوا لأجلهم" فالمحبة تأتي أولاًَ.
ولا شك أن هذه المحبة تعد إختبار مسيحي صعب لكنه حقيقي ومعاش، فالمواطنة الصالحة لا تدعونا إلى التمرد الأعمى الذي يحرق صاحبه ويقتل قريبه معه أو إلى التخريب والتدمير للممتلكات الوطن ومصالح المواطنين الأبرياء والمؤسسات العامة فقط لإعلان الرفض لسياسة حكومة ما أو مسئول معين، لا هناك قنوات شرعية للإضرابات والإعتصامات كما ان هناك قوانين تنظم مثل هذه الأعمال يجب التي يجب إتباعها للتعبير عن الرأي، فنحن نمتلك قوة التغير إن أراد المجتمع أن يسمع لنا ويقتدي بنا وبنموذج حياتنا المسيحية التي ملأت أرجاء العالم بالحب والسلام والإلتزام. قيم الإيمان المسيحي التي تقدر قيمة وحق الإختلاف الحر الناضج والحوار المنطقي الهادئ الذي يؤدي إلى والتقدم والنمو والإزدهار وكل ذلك لن يكن بالعنف أو الشعارات أو التدمير بل بالعمل والمثابرة والإخلاص في الدين والمعاملات اليومية.