بقلم : عزمي إبراهيم
الدين، أي دين، بمجموعة "روحانياته" يشبه العُملة، له وجهان، وجه يرتبط بالسماء ويربط الإنسان بالمعبود أو المُقدَّس، والوجه الآخر يرتبط بالأرض ويربط الإنسان بأخيه الإنسان. ويخطئ من يظن أنَّ بأيٍ من شقيّ الدين ما يُوحي للإنسان بشرٍ أو غِلظة أو تمييزٍ أو تسلطٍ أو تسيِّدٍ أو تحكُّمٍ في الآخرين، ولو بخيط رفيع.
ومن ناحية أخرى ليس بأيٍ من شقيّ الدين ما يجعله وسيلة إنتاج أو إبداع أو إختراع تؤدي إلى حَل مشاكل الأوطان وشعوبها، والبشرية عامة، من فقر وجوع ومرض وجهل وتخلف وفوضى.وغيرها. أما الحَل لتلك الموبقات الحياتية فهو حسن التعامل مع الناس، والولاء للوطن، والتسلح بالعلوم الحضرية، وبذل الجهد للإنتاج، وليس من تلك الأربعة ما يتعارض مع الدين. أترجم هذا في الرباعي بأربعة كلمات "الأخلاق والوَلاء والعِلم والعمل" وهم الحل، وليس أي دين هو الحل!!
الحقيقة تصدم وتؤلم. ولكن من لا يدرك "نواقصه" ويواجهها بصراحة وشجاعة ليتغلب عليها أو يتخلص منها، بل يُفضِّل أن يدفن رأسه في الرمال ظاناً أن أحداً لن يراه بنقائصه، كما يفضِّل أن يرفع شعارات خادعة لنفسه ظاناً أنه يخدع الآخرين، هذا لن يمكنه الخروج من تحت نِيرِ نواقصه، بل سيظل في مستنقع النواقص غير دارٍ أنه يعيش فيه، أو ربما يدري ولكن لا يملك العزم والحكمة أن ينهض من وَحله وعفنه.
قيل أن الشرق هو مهد الأديان. وفعلا نبتت الأديان وترعرعت العقائد الروحية أو معظمها في الشرقين، الأوسط والأقصى، حيث مصر والشام والعراق وفارس وفلسطين وشبه الجزيرة العربية والهند والصين واليابان، ففاح أريج روحانيات الأديان في رحاب الشرق يتنشقها كل فصيلٍ حسب ما وصلت إليه... مع الفارق.
كما احتفظ المسلمون بدينهم، إحتفظت شعوب الصين والهند واليابان واليهود والمسيحيين بأديانهم وتفريعاتها وقدسوها، إلا أنهم بعد تجارب بل وحروب أدركوا أن الدين ليس إبداعاً ولا مُبدِعاً. وأن الدين في معظمه ليس اختياراً لتابعيه بل ممارسة بُنِيَتْ على اقتناع مُوَرَّث من أجيال لأجيال. كما أنهم أدركوا أن الدين أنانيّ انعزاليّ لا يقبل التعددية ولا يتعايش مع الأديان أو الأمم الأخرى، وأنه طائفيّ عنصريّ يتحيز لتابعيه دون الآخرين، وأنه لو تمَلـَّك سلطة فعدالته لتابعيه فقط دون الآخرين. أي أن لا عدالة حقيقية في عباءة الدين. فالعدالة التي لا تفيض على الكل بل تُميِّز البعض دون البعض ليست عدالة.
أدركت تلك الشعوب أن الدين لا يصلح لإدارة الدول. فعلاوة على أن بالدين وحده لا تتقدم الدول، وبمزجه بالسياسة والسلطة والإدارة يكون عائقاً لعجلة الإنتاج والإبداع والتقدم، فهو أيضاً أداة تقسيم وتفريق وتمييز بين أبناء الوطن الواحد. إيجازا لذلك أن تلك الشعوب أدركت أن تحت حُكْمِ الدين لا تقدم للوطن، ولا عدالة ولا مساواة ولا وحدة بين مواطنيه، وأن هذا هو السر الجوهري في تخلف الدول التي يحكمها الدين والتي تمزج السياسة بالدين.
احتفظت تلك الدول الغير إسلامية بقداسة الدين، ولكنهم نفضوا عنهم قيوده المُكَبِّلة للمسيرة المدنية، كما يُستبعَد الشوك من الوردة قبل التزين بها، وكما يُستبعَد الحصى والشوائب من الرز قبل طبخه، وكما يستبعد قشر الموز قبل أكله. وتطلعت أنظارهم وعقولهم نحو منابع العلم والثقافة والتحضر والانطلاق الفكري للفلسفة والتحليل المنطقي وتجاوبوا بل تمازجوا مع فلسفات الغرب الأغريقي والروماني وحضارات الغرب الحديث وأفكاره.. فتقدموا.
هذا.. بينما فضَّلت الدول الإسلامية بالشرق الأوسط، وحتى المهاجرون من أبنائها للغرب، أن يتمسكوا بقبضتهم على قيود الدين وأشواكه وحصاه وشوائبه وقشوره دون الطيب منه. واكتفوا به كشمعة خافتة لا تكاد تضيء لهم الطريق نحو التطور والانفتاح الفكري والاندماج والتعايش مع غيرهم. نعم هذه هي الحقيقة الصادمة. اكتفى المسلمون بضوء شمعة الدين بدلا من مزاوجته بأضواء الحرية الباهرة المغلـِّفة للمدنية والحضارة والديموقراطية والفكر والعلم والفيزيا والتكنولوجيا والتحليل العقلاني الفلسفي والمنطقي. فظلوا، رغم مرور أربعة عشر قرناً، مُخَدَّرين بأنهم "خير أمة أخرجت للناس" وأنهم "الأعلون" على الآخرين، فتقوقعوا وتخلفوا، ولم يصيروا حتى "مِثل الآخرين"!!
صار الدين "فقط" هو الحياة في الدول الإسلامية. وأصبحت قيود الدين عبارة عن جذور وفروع متشابكة داخل عقول غالبية المسلمين كألياف غزيرة متداخلة متشعبة لا تترك مساحة أو فرصة لنبت العلم والتحضر وقبول التغيير والتطور والتعايش مع الحضارات والأديان الأخرى، أو حتي للتفكير في ذالك الاتجاه. والأسوأ من ذلك أن طوائفاً أو عصابات من المسلمين تحت غطاء "الجهاد" المفتعل اتخذت الدين وسيلة للإرهاب والاغتصاب وسفك الدماء وهدم المؤسسات ليس فقط في بلادهم بل في أنحاء العالم. عصابات اتخذت الدين سلماً لاستلاب السلطات والحقوق على حساب سلامة واستقرار الأوطان وطوائف الشعوب حتى من ذات الدين.
حقاً أن للمسلمين الحرية أن يعتقدوا أنهم "الأعلون" كما جاء في كتابهم، ولكن ذاك في الآخرة لو شاء الله ولو حَسُنَت أعمالهم على الأرض!! فكل دين وعقيدة ومذهب يتبنى مثل هذا الفكر. أما على سطح الأرض، فالأمر يختلف. ليس هناك مبرر لفصيل ديني أو طائفة دينية أن تعتبر تابعيها "أعلون" على غيرهم، حتى لوحَسُنَت أعمالهم!! وما هذا إلا غباء وتمييز وخداع لأنفسهم وصلف أجوف واستقواء وظلم على الآخرين لا يرضاه الله، فقد خلق الله الناس سواسية كأسنان المشط.
واللوم في ذلك ليس على المسلمين تعميماً. بل العيب على دعاة الدين الكارهين الغير والهادفين للسلطة وصناع الفتاوي المسيئة حتى للدين وفقهاء الزوايا ومدّعي التدين الذين يتكاثرون بسرعة فائقة من عصر لعصر ومن جيل لجيل في البلاد الإسلامية، في حين يخبو بهاء رجال العلم والاقتصاد والتعليم والتثقيف والتهذيب لو وُجِدوا!! بل العيب أيضاَ على رجال الدين وشيوخه وأئمَّته وفقهائه وعلمائه الخيِّرين والمسلمين المتنورين الذين لم ولا يتصدّوا لتلك الفئة المغرضة والمسيئة للدين الإسلامي والأوطان الإسلامية وشعوبها، ربما خوفاً من سلاح التكفير المُساء استغلاله في العالم الإسلامي.
ففي ظل هذا الجو أصبح الدين مهنة وتجارة ووسيلة استغلال بدلاً من التثف والتحضر والإنتاج والإبداع والتقدم والتعايش مع الآخرين. فتكاثـُر تجار الدين وسماسرته ودُعاتِه ومدَّعيه المغرضين والمنتفعين أعطاهم قوة عددية وأتباع بسطاء وجهلاء ومخدوعين، فاتخذوا الدين سلماً إلى الحكم والمناصب والسيطرة في مجال السياسة، وهي ظاهرة غير صِحِّيَّة بل مُخَرِّبَة وصلت إلى الفوضى الدينية والاجتماعية وأحلال التكفير وسفك الدماء والهدم والحرق. أقل ما يقال فيها أنها ليست لصالح الأوطان المسماة إسلامية أو عربية!! وما على القاريء المسلم إلا أن ينظر إلى ما حققتـه الدول الإسلامية في 1400 عام!! وليقارن ذلك بما حققته الصين والهند واليابان وغيرهم في تلك الحقبة من الزمان، وما وصلت إليه استراليا وأمريكا فيما يزيد قليلاً عن 200 عاماً.
كما ذكرت في مقدمة المقال، المفروض في الدين أنه يرفع قلوب تابعيه نحو السماء ويحثهم على حسن التعامل مع كل البشر على الأرض. ولكن الدين وحده لا ينهض بالأمم. زد على ذلك فصائل وتفريعات الدين التي تهدم الأوطان ولا تؤمن بها، بل تُفضِّل التكاثر العددي والتوسع الجغرافي على التقدم والارتقاء.
"الوَلاء والأخلاق والعِلم والعمَل" هي الأربع عجلات لقطار تقدم الأوطان. وهو قطار يؤدي لمحطات متتابعة هي الإنتاج والإبداع والبناء. ثم نمو الاقتصاد ودخول الأفراد، ثم ازدياد دخل الدولة من الضرائب. ثم ازدهار الوطن وشعور المواطن بالأمان والمقدرة والفاعلية. بعد تلك المحطات يندفع المواطن مستبشراً صاعداً نحو مرحلة أعلى في سلم "الولاء والأخلاق والعِلم والعمَل" وهذا هو دولاب تقدم الأوطان والشعوب. ترجمة ذلك، في سلسلة واحدة: إنتاج، فازدهار، فاستقرار.
فلو شاءت الدول التي غالبيتها مسلمون ومنها مصر أن تنهض من سباتها في كهف التخلف الذي دام 1400 عاماً، لتتقدم وتسير في ركب الدول المتحضرة، عليها أولاً أن لا تزُجّ الدين في السياسة وفي إدارة البلاد والعباد. وأن تؤمن أن الرباعي "الأخلاق والوَلاء والعِلم والعمـل" هو الحَل. وليس "الإسلام هو الحل" ولا أي دين!!