بقلم: يوسف سيدهم
الأقليات في مصر عاشت أزمنة أزمة خلال العقود الستة الماضية, وأقصد بالأقليات كل من حسب مواطنا مصريا لكنه لم يحظ بكامل حقوق المواطنة, فالمرأة التي تمثل 50% من المجتمع ولا يستقيم عددا أن تحسب ضمن الأقليات عانت من أقسي درجات الغبن والتهميش والوصاية في هذا المجتمع الذكوري
, والأقباط الذين يمثلون واحدة من الأقليات العددية في هذا البلد عانوا طويلا من عدم المساواة بينهم وبين المسلمين في حقوق المواطنة في مجالات كثيرة واستمرأت الدولة تركهم حتي اليوم دون معرفة نسبتهم الفعلية الدقيقة إلي تعداد سكان مصر, وكانت المفارقة المضحكة المبكية أنهم بينما انتقصت حقوقهم وعوملوا كمواطنين من الدرجة الثانية كانوا كلما صرخوا إلي الدولة لتقوم بإعلان تعدادهم تنكرت الدولة لذلك وظهر عليهم من يعاتبهم قائلا: ولكنكم مواطنون مصريون, لماذا تريدون البحث عن هوية طائفية منفصلة عن المصريين ؟!!....
ولا تنفصل عن هذا الواقع المريض شرائح أخري من المصريين تعاني التهميش مثل الشباب وغيرهم من الأقليات العرقية أو الدينية, وكلها شرائح تحمل ميراثا مريرا من الغبن وتتطلع إلي احتلال المساحات والمواقع التي تليق بها وترد لها اعتبارها وتؤكد علي مواطنتها الكاملة غير المنقوصة بفتح جميع الأبواب أمامها وتوفير سائر الفرص لها بمعيار الكفاءة والاستحقاق وتمكينها من المشاركة في نهضة مصر الحديثة.
لذلك ما أن قامت ثورة 25يناير 2011 وتم إقصاء نظام مبارك الاستبدادي الراعي لكافة أشكال الفرز بين المصريين حتي اندفعت سائر أطياف الشعب للمشاركة في الثورة يحدوها الأمل في تغيير واقعها ورد اعتبارها.. ولم لا؟.. ألم ترفع الثورة شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية؟.. لكن سرعان ما خابت آمال جميع الأقليات وهي تشاهد انقضاض التيارات الإسلامية بزعامة الإخوان المسلمين علي الثورة واختطافها عنوة لحسابها واستدراج مصر إلي نفق مظلم كئيب, وبدلا من أن تتحسن أحوال المصريين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا, تردت أحوالهم علي نحو مخيف حتي تدخلت الإرادة الشعبية وساندتها قواتها المسلحة- وفوق ذلك وتلك حلت بركة العناية الإلهية- لتنقذ مصر في 30يونية الماضي وتعيدها إلي المسار الصحيح حيث نمضي جميعا الآن سائرين علي خريطة طريق لتشكيل ملامح دولة عصرية ديمقراطية حديثة كانت قد ضلت طريقها قبل أن تعود واثقة من نفسها واعية دروس تجربة قاسية مرت بها.
وكان من أعظم إنجازات 30يونية التي طالما افتقدها المصريون ذلك التلاحم الشعبي الرائع والانصهار الحقيقي لجميع الأطياف والفصائل في وعاء الوطن.. لم يعلق أي فصيل مشاركته في التمرد علي حكم الإخوان باشتراط أية مطالب مسبقة.. جنب الجميع متاعبهم الفئوية وإحباطاتهم إزاء استمرار معاناتهم ووضعوا مصر أولا واثقين أن التضافر والتكاتف لإنقاذ مصر هو الأهم وأن ماعدا ذلك سيأتي حتما تبعا لذلك.. والآن جاءت ساعة الاختبار الحقيقي لهذا الرصيد التاريخي من تحالف المصريين -رصيد يتحقق بشكل غير مسبوق منذ تلاحم المصريين في ثورة 1919- فماذا حدث؟
بينما تعكف لجنة الخمسين علي كتابة وصياغة التعديلات الدستورية -وبالرغم مما يشوب هذه المهمة من لغط سياسي وإعلامي- ترتفع الصيحات من البعض مطالبة بتقسيم الكعكة بين المصريين بناء علي أنصبة محددة بدعوي ضمان الحقوق وكفالة التمثيل وإتاحة تعبير الأقليات عن نفسها ودفاعها عن حقوقها ومصالحها.. وعاد تعبير الكوتة ليطل علينا باعتباره المخلص المنتظر الذي سيصلح المعوج ويحقق المأمول.
المدافعون عن مبدأ الكوتة يتحدثون عن عدالته في تقسيم الكعكة وفوائده في تمكين الأقليات ويدللون علي ذلك بأمثلة كثيرة لدول طبقت الكوتة في علاج نقائصها السياسية والاجتماعية.. لكن لا أحد منهم يقلق من مغبة تهديد الكوتة للتلاحم الشعبي الحقيقي الذي تحقق بعد 30يونية ومخاطرة تفتيت هذا التلاحم بإعلاء الطائفية مرة أخري.. ما تزال النظرة الضيقة محصورة في أن متاعب المرأة لا تتصدي لها سوي المرأة وعلاجها لن يأتي إلا بفضل جهاد المرأة مما يستلزم ضمان تمثيل المرأة, أيضا هموم الأقباط لا يعبر عنها إلا الأقباط وعليهم أن يحملوا علي عاتقهم روشتة علاجها مما يستوجب تمثيل الأقباط.. وهكذا تتصاعد تلك الرؤية الطائفية لتشمل سائر الفئات المهمشة وقد تجتذب معها فئات وفصائل لم نسمع صوتها من قبل لكن سال لعابها هي الأخري أمام عملية تقسيم الكعكة.
يجب أن يدرك المصريون أن أوراق اللعبة تغيرت وأصبحنا علي أعتاب مرحلة فاصلة في تاريخنا ملامحها ومعاييرها أقرب إلي عهود انتعشت فيها مواطنة المصريين وسمت فوق الطائفية.. لا أنكر أن تمثيل جميع أطياف الشعب هدف منشود وتمكين الجميع من المشاركة مشهد وطني جميل, لكن أن يتم ذلك بالكوتة هو مشهد مصطنع غير أصيل يرسخ الطائفية والفرز.. وأفضل عوضا عن ذلك غرس مفاهيم الوطن والمواطنة حيث يتصدي الرجل للدفاع عن المرأة لأنها مواطنة مصرية وينبري المسلم مطالبا بحقوق الأقباط لأنهم أولا مصريون ويحرص البالغ علي فتح السبل لتمكين الشباب.. هذا جهد في الاتجاه الصحيح يرسخ حرص الأغلبية علي حقوق الأقلية وأخذ القوي بيد الضعيف واعتراف الكبير بأنه إذا كان يمتلك الحاضر فالصغير يجب إعداده للمستقبل.. كل ذلك دون المخاطرة بتقسيم هذا الشعب وتوزيع المصريين علي منابر فئوية وطائفية تؤدي في النهاية إلي لبننة مصر (تيمنا بالتوجه اللبناني لتوزيع الكعكة).
أعرف أن الانصهار في الوعاء الوطني يحتاج فترة طويلة نسبيا حتي يأتي ثماره, وهي عينها الفترة التي تحتاجها سائر الأقليات لتثبيت أقدامها في المنابر السياسية وبعدها يكون تمثيلها طبيعيا بناء علي الكفاءة والاستحقاق والنضج المطلوب, وهذا هو ما يبقي ويدوم.. بينما الكوتة وقتية لا تدوم سوي فترة زمنية محددة, والخوف كل الخوف أنه عند زوالها يعود المجتمع لشيعه وتحزباته وطائفيته السابقة.. ذلك لأننا تخوفنا أن نراهن علي وطنيته.