الأقباط متحدون - إسكندرية مَريَّة.. وترابها زعفران!
أخر تحديث ٠١:٤٦ | السبت ٢٣ نوفمبر ٢٠١٣ | هاتور ١٧٣٠ ش ١٤ | العدد ٣٠١٩ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

إسكندرية مَريَّة.. وترابها زعفران!

صوره تعبيريه
صوره تعبيريه

 إذا كنا لا نستطيع أن نتحدث عن مصر دون أن نذكر القاهرة، فنحن لا نستطيع بالمثل أن نتحدث عن مصر دون أن نذكر الإسكندرية، وكما أن القاهرة ليست مجرد موقع أو جغرافيا وإنما هى جغرافيا وتاريخ، فكذلك الإسكندرية جغرافيا وتاريخ.

 
القاهرة هى النيل، والفسطاط، وعمرو بن العاص، والإمام الشافعى، وجوهر الصقلى، والمعز، والأزهر، والقلعة. والإسكندرية هى البحر المتوسط، والإسكندرية والمنارة، والمكتبة، والقديس مرقس، والكنيسة القبطية، وكليوباترا، وأنطونيو.
 
الإسكندرية باختصار هى الجسر الذى يصلنا بالعالم ويصل العالم بنا ذهابا وإيابا، شمالا وجنوبا، وشرقا وغربا. والإسكندرية بهذا الموقع الذى تحتله وهذه الوظيفة التى تؤديها عنصر حى من عناصر الهوية المصرية التى نتحدث عنها فى هذه الأيام فنذكر بعض عناصرها، ونسقط بعضها. وهل تنفصل الهوية المصرية عن حضارة مصر وتاريخها؟ وهل يكون حديثنا عن الحضارة المصرية صحيحاً وافياً مفيداً إذا أسقطنا منه الإسكندرية ونسينا دورها؟
 
لا. لن يكون فى هذه الحالة صحيحاً لا عن حضارة مصر ولا عن الحضارة الإنسانية كلها. فالدور الذى لعبته الإسكندرية ولعبته مصر من خلالها فى حضارة العالم دور مشهود اجتمعت فيه عناصر متعددة، وشاركت فيه شعوب البحر المتوسط، وعبرت فيه عما يجمع بينها وما ينفرد به كل منها، ويتميز عن غيره.
 
ومن الطبيعى أن تكون العناصر المصرية فى حضارة الإسكندرية واضحة مؤثرة. لأن الإسكندرية ولدت فى مصر. فمصر هى أم الإسكندرية ومربيتها، صحيح أن الأب يونانى، لكنه يونانى متمصر، نشأ فى مصر، وتعلم فيها حتى قبل أن تنشأ الإسكندرية بقرون عديدة. فقد كان القراصنة اليونانيون يهاجمون سواحل مصر فى العصور القديمة، وكان الجنود المرتزقة يأتون من اليونان ليعرضوا خدماتهم على الفراعنة المتأخرين، ويشاركوا فى حروبهم، وكان المفكرون وطلاب العلم والرحالة اليونانيون يزورون مصر، ويؤمون معابدها، ويحاورون حكماءها وكهنتها، ومن هؤلاء صولون، وطاليس، وفيثاغورث، وديموقريطس، وأفلاطون الذى يتحدث عن مصر، ويذكرها فى مؤلفاته. ونحن نعرف المؤرخ اليونانى هيرودوت، صاحب الكلمة المشهورة المعبرة «مصر هبة النيل». هذا المؤرخ يحدثنا عن محاورات صولون مع أحد الكهنة المصريين، الذى ظل يستمع لضيفه اليونانى، ويصحح له معلوماته فى التاريخ ثم ابتسم، وقال له: صولون! أنتم أيها اليونانيون ما زلتم أطفالاً! وكانت مصر حاضرة فى ملاحم هوميروس، خاصة فى قصة هيلين وباريس، التى تسببت فى حرب طروادة. وقد عبر الإسكندر الأكبر، مؤسس الإسكندرية، تعبيراً رائعاً عن هذه الصلة الحميمة التى تربط اليونان بمصر حين أعلن عن وصوله إلى مصر أنه ابن الإله المصرى آمون رع، الذى زار أمه متقمصاً هيئة زوجها الملك فيليب المقدونى فحملت فيه.
 
ولهذا كان أول عمل قام به الإسكندر عند وصوله إلى مصر حجه واحة سيوة ليزور والده المصرى فى معبده الذى لا يزال قائماً حتى الآن، ويذهب من ثم إلى منف ليتوجه كهنة آمون ملكا على مصر، وليبدأ به العصر الهللينى فى تاريخ مصر، هذا العصر الذى استمر حوالى ألف عام، بدأت فى أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، وانتهت بدخول العرب مصر فى أواسط القرن السابع بعده، ولعبت فيها الإسكندرية دورها فى حضارة البحر المتوسط، التى بدأت من مصر، وازدهرت فى مصر، خاصة الإسكندرية، حيث ظهر للوجود أول مجتمع إنسانى متعدد اللغات والثقافات والقوميات ضم اليونانيين، واليهود والرومان إلى جانب المصريين الذين لعبوا فى حياة هذا المجتمع دوراً من أهم الأدوار.
 
لقد تعلم اليهود فى مصر كما تعلم فيها اليونانيون، عاشوا فيها، وأخذوا عن المصريين عقيدة التوحيد، اقتبسوا الكثير من حكمتها ونسبوها لأنفسهم، كما فعلوا حين زعم بعضهم أنهم بناة الأهرام!
 
والمجال لا يتسع لتقديم الأمثلة، لكنى سأشير إلى مثل ذكره هنرى بريستيد فى كتابه «فجر الضمير»، أثبت فيه النص المصرى الذى نقلته التوراة فى «سفر الأمثال» فقالت: «أَمِل أذنك واسمع كلام الحكماء، ووجه قلبك إلى معرفتى. لأنه حسن إن حفظتها فى جوفك»!
 
هذا النص التوراتى منقول بالحرف من كلام الحكيم المصرى القديم أمينموبى وفيه يقول: أَمِل أذنيك لتسمع أقوالى. واعكف على فهمها. لأنه شىء مفيد إذا وضعتها فى قلبك! ويرى عالم النفس الشهير سيجموند فرويد - وهو نمساوى يهودى- فى كتابه «موسى والتوحيد» أن موسى كان نبيلاً مصرياً. وهذا ما يدل عليه اسمه. فموسى اسم مصرى «لقيط الماء» أو المنتشل من الماء.
 
وقد نشأ موسى فى بلاط إخناتون، واعتنق ديانته التى عرف فيها أن الله واحد لا شريك له، وبشر بها اليهود المستعبدين فى مصر وحررهم من العبودية، وذهب بهم إلى فلسطين ليؤسسوا دولتهم فيها، ويرحلوا بعد سقوطها لتذهب منهم جماعات إلى الإسكندرية، التى كان لها مع عقيدة التوحيد تاريخ حافل وتجربة متميزة تمثلت فى كنيستها القبطية، التى آمنت بأن المسيح طبيعة واحدة لا ينفصل فيها اللاهوت عن الناسوت، على عكس كنيستى روما وبيزنطة اللتين فصلتا بين الطبيعتين.
 
ولا شك فى أن التراث المصرى القديم كان له أثره فيما ذهبت إليه كنيسة الإسكندرية، التى آمنت بالطبيعة الواحدة، وأصبحت بها كنيسة وطنية مستقلة انفصلت بها عن البيزنطيين، الذين كانوا يحتلون مصر فى ذلك الوقت، وعبرت بهذا المذهب عن احترام المصريين تراثهم وتمسكهم باستقلالهم وتوقهم لاستعادة سلطتهم الوطنية التى فقدوها. ولاشك أيضاً فى أن عقيدة التوحيد المصرية القديمة التى كان لها تأثيرها فى إيمان المسيحيين المصريين بالطبيعة الواحدة - كان لها تأثيرها كذلك فى إقبال المصريين على اعتناق الإسلام.
 
هذه هى الإسكندرية، وهذا هو تاريخها ودورها فى حضارة مصر وحضارة العالم. فإذا أراد القارئ أن يرى صورة حديثة من هذه المدينة التى أتحدث عنها، فما عليه إلا أن يلتفت قليلاً للوراء ليرى كيف كانت الإسكندرية فى النصف الأول من القرن الماضى، وكيف استعادت بعد القرون المظلمة التى عاشتها فى ظل المماليك والأتراك شبابها وإقبالها على الحياة ومجتمعها المختلط الذى كان مؤلفاً من المصريين واليونانيين والإيطاليين والشوام واليهود والمغاربة واليهود، الذين واصلوا سيرة أسلافهم القدماء، وأبدعوا ثقافة تعتز بها مصر، ويعتز بها العالم كله.
 
لقد ولدت السينما المصرية فى الإسكندرية التى كان لها أيضاً دورها فى نشأة المسرح المصرى ونشأة الصحافة المصرية فقد بدأت فيها «الأهرام» حياتها قبل أن تنتقل إلى القاهرة. والإسكندرية هى التى استقبلت خليل مطران وإيليا أبوماضى وخليل شيبوب. والإسكندرية هى التى قدمت لمصر سلامة حجازى وسيد درويش، وبيرم التونسى ومحمود سعيد، وسيف وانلى، وهى التى قدمت للعالم قسطنطين كفافيس، وهو أعظم شاعر يونانى ظهر فى هذا العصر، وفيليبو توماسو مارينتى الشاعر الإيطالى زعيم المدرسة المستقبلية وزميله أونجاريتى، وهى التى ألهمت لورنس داريل روايته الرائعة «رباعية الإسكندرية».
 
هذه الثقافة المتعددة المصادر والرؤى، التى تصلنا بأنفسنا وبالعالم، كيف نسقطها من وعينا؟ وكيف ننزعها من هويتنا؟ إنها تنتمى لنا قبل أن تنتمى لغيرنا. فمصر هى فجر الضمير، ومهد التوحيد، ومكتشفة العالم الآخر، وكاتبة الأبجدية، وزارعة الأرض وبانية الهرم. وإذا كانت مصر قد أخذت عن غيرها فى العصور الأخيرة، كما أخذوا عنها فبوسعنا أن نقول: بضاعتنا ردت إلينا! ويبقى علينا فى النهاية أن نعترف للإسكندرية بدورها الخلاق ومكانها الحى الراسخ فى الهوية المصرية.
 
إسكندرية مَريَّة، وترابها زعفران!
 
المصرى اليوم

More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع