لا يزالون يعتقدون أنهم قادرون على هزيمة أجهزة الأمن وينتظرون الانتخابات لعقد صفقة مع الرئيس القادم
«جماعة الإخوان ترفض وتماطل فى أى تفاهمات من شأنها تحقيق المصالحة، والإجراءات الأمنية مع أهميتها وضرورتها لن تكفى وحدها، والحكومة والإخوان يجب أن يسعوا للمصالحة لأن العملية السياسية الشاملة، وليس الحملات الأمنية، هى التى يمكن أن تحقق استقرار البلاد»، هكذا لخص الدكتور زياد بهاء الدين نائب رئيس الوزراء ووزير التعاون الدولى رسالته التى أراد أن يوجهها للرأى العام المصرى خلال الأيام الماضية حول آخر أوضاع دعاوى المصالحة بين الدولة وجماعة الإخوان، ليبدو جليا أنه لا يستثنى أحدًا من طرفى الصراع السياسى الحالى فى البلاد من المسؤولية عن ضرورة السير فى طريق المصالحة إلى آخره، سعيا إلى تحقيق الاستقرار لمصر.
تحفظ الذاكرة المصرية القريبة للجماعة الإسلامية مبادرتها بوقف العنف وإجراء مراجعات لمسار صراعها الدموى مع الدولة، والذى وصل إلى ذروته فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى، لكن ما يجب الإشارة إليه هو أن جماعة الإخوان سبقت الجماعة الإسلامية فى مسار المراجعات الفكرية، حين قدم مرشدها الثانى حسن الهضيبى كتابه «دعاة لا قضاة» فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فيما يبدو واضحا أن هناك اختلافا فى الظروف التى صاحبت تجربة «مراجعات» الجماعة الإسلامية وتجربة الإخوان اليوم، واختلاف فى المنهج الفكرى الذى تتبعه كلتا الجماعتين، وتعتقد جماعة الإخوان أنه لا يزال لديها القدرة على استعادة السلطة، فيما كانت الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد قد بدأتا التفكير فى إجراء مراجعات فكرية، بعد يقين من قيادات التنظيمين أن معركتهم العسكرية مع أجهزة الأمن انتهت بالهزيمة، وبحسب مصدر قيادى بالجماعة فإن كوادر الجماعة كان لديهم اعتقاد قبل المبادرة بأن القيادات المتواجدة فى الخارج سيقتحمون السجون، ويحررون القيادات التاريخية.
تجربة مبادرة الجماعة الإسلامية لوقف العنف والمراجعات الفقهية والتى انطلقت قبل نحو 16 عاما، تعد واحدة من أهم التجارب العالمية فى احتواء جماعات العنف السياسى، والتى نقلتها دول كانت تعانى من ظروف مماثلة، ويقول خبراء إنه لولا الجهود التى بذلتها السلطة من ناحية والجماعات الإسلامية من ناحية أخرى، وتلاقيهما فى نفس المسار لما كتب للتجربة النجاح، حيث تروى قيادات بالجماعة الإسلامية أنهم وعقب إعلان بيان وقف العمليات القتالية عام 1997 تحملوا التشكيك فى نواياهم والاتهامات التى وجهت لهم بأن «مبادرتهم مناورة من الإرهابيين»، خاصة وأنه بعد أشهر قليلة من الإعلان عن البيان نفذ عدد من عناصر الجماعة الذين كانوا متواجدين خارج السجن أخطر عمليات الجماعة على الإطلاق والمتمثلة فى حادث الأقصر الذى راح ضحيته 58 سائحا، ووفقا لبيان صادر عن الجماعة فيما بعد فإن أكثر من 100 من أعضاء الجماعة تم تنفيذ حكم الإعدام فيهم بموجب محاكمات عسكرية بعضها حدث بعد إعلان المبادرة.
ظلت حالة الشك والريبة بين السلطة من جهة والجماعة الإسلامية من جهة أخرى لمدة 5 سنوات التزمت خلالها الجماعة بعدم تنفيذ عمليات عنف، بل وأصدر عدد من القادة التاريخيين لها بيانًا آخر عام 1999 تمسكوا فيه بوقف جميع أشكال العنف ضد السلطة والمجتمع المصرى، وربما كان هذا سببا فى رفع معدلات الثقة بين الطرفين، حتى بدأت القيادات التاريخية للجماعة بموجب ضوء أخضر من السلطة فى تأليف مجموعة من الأبحاث الشرعية، نشرت فيما بعد تحت عنوان «سلسلة تصحيح المفاهيم»، وكان الهدف منها هو العودة إلى المجتمع بأفكار جديدة حتى يقبلهم مرة أخرى، فيما سعت السلطة بدورها لتحسين شروط التفاوض حتى تنجح التجربة، فبدأت وزارة الداخلية فى إصلاح أوضاع أعضاء الجماعة داخل السجون أولًا، وسمحت لهم بأمور لم تكن تسمح بها من قبل مثل الخلوة الشرعية، وإمداد الزنازين بأجهزة تلفزيون، وثلاجات، وبوتاجازات، بالإضافة إلى زيادة ساعات التريض، وعندما تطورت الأمور وبدأت المراجعات تؤتى ثمارها تم الإفراج عن مجموعة من السجناء، بالإضافة إلى استقبال أسر القيادات الهاربة فى الخارج، والسماح لهم بالعودة إلى مصر دون توقيفهم، وتجميد تنفيذ أحكام الإعدام التى صدرت فى حق عدد من القيادات، وأبرزهم مصطفى حمزة الذى كان متهمًا بأنه العقل المدبر لمحاولة اغتيال الرئيس الأسبق حسنى مبارك فى أديس أبابا عام 1995.
نفس السيناريو تكرر فيما بعد مع تنظيم الجهاد، من خلال وثيقة ترشيد العمل الجهادى التى أنجزها الدكتور فضل أو سيد إمام الشريف، وفى الأغلب فإن هذه الوثيقة كانت موجهة لدحض أفكار تنظيم القاعدة، نظرا لأنها صدرت عام 2007، فى وقت كانت فيه جماعات العنف البارزة قد انتهى وجودها تماما من مصر، بينما كان العالم كله يعانى من إرهاب تنظيم القاعدة، ليصبح من غير الغريب أن ينعى إسلاميون فى بيان رسمى فيما بعد اللواء أحمد رأفت المسؤول عن مكافحة النشاط الدينى فى جهاز أمن الدولة والعقل المدبر لمبادرات وقف العنف، وأن يحضر عدد منهم جنازته وينتحبون على قبره رغم أنهم كانوا يتهمونه فى وقت سابق بالمسؤولية عن تعذيب الآلاف من أعضاء الجماعة، لكنهم نسوا كل ذلك وتذكروا فقط أن المبادرة أخرجت نحو 20 ألفًا وفى تقدير آخر 30 ألف معتقل من السجون.
انتشرت التجربة سريعًا، حيث نقلتها الجماعة الإسلامية المقاتلة فى ليبيا والتى كان ينتمى لها أبويحيى الليبى أحد أبرز عناصر تنظيم القاعدة، والذى هاجم المراجعات المصرية بعنف لأنها كانت سببا فى تراجع جماعته، كما نقلت الحركات السلفية الجهادية فى المغرب تجربة المراجعات أيضا وكان تأثيرها هائلا على تنظيم القاعدة، حيث أصدر أيمن الظواهرى واحدا من أهم كتبه وهو «التبرئة»، للرد على ما ورد فى وثيقة ترشيد العمل الجهادى، وقبلها كان قد أصدر عددا من التسجيلات الصوتية لمهاجمة مراجعات الجماعة الإسلامية فى مصر، فيما يرى كثير من المراقبين أن ما جرى من الجماعة الإسلامية والذراع السياسية لها «حزب البناء والتنمية» من بعد أحداث 30 يونيو يشكك فى مصداقية المراجعات، معتبرين أن مشاركتها فى اعتصامى رابعة العدوية والنهضة يجدد طرح الكثير من التساؤلات حول الموقف الفكرى لقيادات الجماعة من أعمال العنف.
فى المقابل فإن جماعة الإخوان ووفقا لمصادر مطلعة تواجه مشكلة فيما يتعلق بالمصالحات، تتمثل فى أن القيادات المتواجدة بالسجون ما زالوا يعتقدون أنهم قادرون على هزيمة أجهزة الأمن والعودة إلى صدارة المشهد مرة أخرى، ما أدى إلى إفشال جهود الوساطة التى تمت حتى الآن، وبحسب المصادر فإن هذه القيادات، والتى تمتلك القرار التنظيمى داخل الجماعة، يعتقدون أن الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية القادمة هى المحطة التى ستعيد الجماعة إلى الحياة السياسية مرة أخرى، نظرا لأن المرشحين - حسب اعتقادهم - سيتداعون إلى الجماعة للحصول على أصوات أعضائها وكتلتها التصويتية، التى يقدرها هؤلاء بأنها تتراوح ما بين نصف مليون إلى 2 مليون صوت.
ووفقا لما تفكر فيه القيادات السجينة، فإنهم سيملون شروطهم على الرئيس القادم لمصر فى هذه الصفقة المرتقبة، ويتفاوضون معه من مركز قوة وليس ضعف كما كان الحال فى مفاوضات الجماعة الإسلامية مع السلطات فى عهد مبارك.