بقلم : مهندس عزمي إبراهيـم
قال الشاعر والفنان، فيلسوف الحرية، ابن لبنان الجميلة جبران خليل جبران: "يقولون إذا مررت على العبد وهو نائم لا توقظه ولا تحدثه عن الحرية؛ ولكني أقول إذا مررت على العبد وهو نائم فسأوقظه وأحدثه عن الحرية."
وها هو صراخي عسى أن يوقظ النائمين المخدرين من أخوتي مسلمي مصر ليسمعوا صوت الحرية. لا، لن أصرخ فما عاد الصراخ يجدي مع من يتخذ العناد والصلف والتمسك بالرأي سبيلاً حتى لو كان خطأ وخطير. سأضع أمام أعينكم صورتين دقيقتين لعصرين مختلفين مرَّت بهما مصر. صورتان بانوراميَّتان عريضتا الأبعاد والأعماق، كل منهما تَعبُر سنيناً بل عقوداً. صورتان بكل منهما أحداث وألوان وأصوات مرئية ومسموعة ومقروءة تملأ العديد من الكتب والمراجع.
ولكني سأحاول جاهداً أن أوجز ترجمة ما تحتويه كل صورة في بضعة فقرات. وما على القاريء إلا أن ينظر في كلا الصورتين بعين الحق وأن يعقد مقارنة منطقية نزيهة بينهما حتى يرى الفارق واضحاً كالشمس حتى للأعمي. فارقٌ واضحٌ لمن لا يغلق قلبه وعقله وضميره ووعيه. فارقٌ واضحٌ لمن لا يتغاضى عن انسانيته وعن الطيب من دينه. فارقٌ واضحٌ لمن يريد أن يصحو من سبات العبوديه ويتطلع لنور الحرية ويتشوق لنسيم الحياة الراقية لنفسه ولبنيه ولأحفاده ولوطنه.. بل ولدينه أيضاً.. فيصرخ قائلاً كفانا من سحابات التخلف!!!
الصورة الأولى:
الصورة الأولى تعكس ما نعيشه اليوم من فوضى وفساد أخلاق وانهيار يكاد يصل للشلل في جميع حنايا الحياة بمصر، من سياسة واقتصاد وانتاج وصناعة وزراعة وتجارة وتعليم ومواصلات وعمالة ونقص في ضرورات الحياة!! هذه فترة بدأت مساوئُها بعصر أنور السادات حيث دس الدين في دستور 1971، وأعلن بغباء أن مصر "دولة إسلامية" متغاضياً عن أن الدولة "جماد" لا تفقه أو "شخصية معنوية" لا تعقل ولا تصلي ولا تصوم ولا تعرف معنى الشهادتين، ومتغاضياً أن بمصر ملايين المواطنين الأوفياء لا يدينون بالإسلام. وما زاد الطين بلة أنه أطلق صراح الأخوان المعتقلين بتهم الإرهاب من السجون ليساندوه ضد الناصريين فكان نصيبه أن اغتالوه في أوج سلطانه. كانت التصرفات العنصرية (دس الدين في الدستور وإطلاق الأخوان من السجون) هي المِعوَل الذي رفعه السادات على عنق مصر لهدمها دون أن يعي.
تلا ذلك عصر حسني مبارك الذي ليس فقط استمر بدستور السادات كما ما هو دون أن يحاول تعديله للأعدل، بل استعمل ورقة الدين أسوأ استعمال. فارتفع في الساحة المصرية صوت وتأثير الأخوان والسلفيين الوهابيين الوافدين من شبه الجزيرة. ثم حل الكابوس الأخواني على صدر مصر في شخص مرسي العياط. فغمرت مصر فترة سوداء فاض فيها تأثير الفكر السلطوي الأخواني والسلفي الوهابي معاً إلى أكثر مدى على الساحة المصرية سياسية وتشريعية حتى وصل إلى بدس بنود الدين المتحيزة ومباديء الشريعة العنصرية صريحة ودفينة في نسيج وحنايا وخلايا الدستور. ليست فقط كدبابيس في ضلوع الدستور، بل كمسامير في نعش مصر وبقع سوداء في ثوبها الأخضر ووشاحها الأبيض.
سنوات فاقت الأربعين ومصر تنزلق تدريجياً حتى بدأت تتهاوي إلى أدنى عصورها فوضى واجرام واستغلال وخيانة وبطالة وعمالة وحرق ونهب وسلب وهدم مؤسسات وقتل وسحل الأبرياء وصفقات مع الأعداء. وبدسهم الدين في الدستور لصالح طائفة بعينها دون عدالة ولا إنسانية ولا مساواة لباقي طوائف الوطن، وباطلاقهم سراح الشر والأشرار في جوانح الوطن وتسببهم في انزلاقه اقتصادياً واجتماعياً وعلمياً وفنياً وأخلاقياً ودينياً.، فقد قاموا بأسوأ ما يسيء إلى الإسلام ذاته. ولكنهم، في حقيقة الأمر، أثبتوا أنهم لم ولا ولن يهمهم دين ولا وطن!!
الصورة الثانية:
الصورة الثانية تعكس لنا عصرَ نهضة مصر الرائعة في النصف الأول من القرن العشرين. كانت مصر راقية متقدمة منتجة مبدعة في كل المجالات، تنافس أقوى وأرقى دول العالم، وكانت سيدة الشرق بلا منافس وكانت دولة محترمة في نظر دول العالم أجمع حتى مستعمريها. كانت مصر في أجمل صورة لها في الأربعة عشر قرنا الماضية علماً وثقافة وفناً وحضارة وانتاجاً واقتصاداً، إلى جانب طباعاً وأخلاقاً وديناً!!
في تلك الفترة، فترة إشراقة مصر، حيث أزدهرت كما لم تزدهر في الأربعة عشر قرنا الماضية، ظهرت في سمائها نجومٌ، بل جواهرٌ بشرية، لم يَجُد الزمان (منذ عصر الفراعنة العظام) بمثلهم من قبلهم ولا بعدهم. كانوا رعيلا من القادة الوطنيين المفكرين البنائين المخلصين. كانوا أعلاماً مًشرِّفة من النسيج المصري الرائع، مسلمين ومسيحيين. أدرج هنا أسماء بعضهم كما تخطر بذاكرتي دون ترتيب تواريخهم.
أذكر زعيم الأمة الحق والأعظم منذ أيام الفراعنة العظام، العظيم سعد زغلول خريج الأزهر الشريف، والشيخ العلامة الوقور الحكيم سند الإسلام الإمام محمد عبده، ومعهم مصطفى كامل، محمد فريد، مكرم عبيد، ويصا واصف، طلعت حرب، سلامة موسى، رفاعة الطهطاوي، على مبارك، هدى شعراوي، جبرائيل تقلا، محمود سليمان، بطرس غالي، واصف بطرس غالى، عبد الرحمن فهمى، حمد الباسل، على ماهر، عدلى يكن، عبد الخالق ثروت، قاسم أمين، جورج زيدان، طلعت حرب، محمد محمود، فخري عبد النور، محمود مختار، أحمد شوقي، حافظ إبراهيم، خليل مطران، اسماعيل صبري، مصطفى النحاس، طه حسين، توفيق الحكيم، عباس العقاد، نجيب محفوظ، رياض السنباطي، محمد عبد الوهاب، يوسف وهبي، وآخرون كثيرون عمالقة في السياسة والاقتصاد والعلم والتعليم والأداب والفنون . هؤلاء قاوموا الاستعمار الغاشم والجهل الشديد، ونهضوا بمصر حتى تسيّدت على دول الشرق وتساوت بأرقي أمم العالم حتى مستعمريها. وذلك لأنهم ارتوا من ينابيع دولة مصر المدنية الديموقراطية العادلة التي بذر بذورها وأرسى قواعدها محمد علي باشا، منشيء مصر الحديثة، وأسرته المالكة من بعده.
والعجيب أن مصر حينئذ كانت بأغلبية مسلمة، تحت رعاية أزهرها الشريف حصن الإسلام بالعالم. وكان إسلام المسلمين حينئذ أنقى وأشرف وأكمل وأكثر احتراماً منه في أي عصر مرت به مصر منذ بدء الإسلام حتى يومنا هذا. وكان دستورها بل جميع دساتيرها حتى 1971، خالية من حشو الدين وبذور التعصب والطائفية. لم يُذكر الدين في أي من دساتيرها حينئذ، في حناياه أو في خفاياه، إلا من عبارة بسيطة رائعة "حرية الاعتقاد مطلقة".
كثيرون منا، عاصروا هذا الزمن الجميل وتمتعوا به وطنا وشعباً. وما زلنا، مسلمين وغير مسلمين، نفتخر بذاك "الزمن الجميل"، الجميل فعلاً بكل تفاصيله، ونتغنى بمحاسنه وروائعه ونجومه وانجازاته وافتخاراته. أدعو من لم يسمح له سِنّه أن يعاصر ذاك العصر أن يسأل عنه أباه أو أمَّه أو خاله أو عَمَّه أو جاراً له ليصف له عظمة ذاك العصر وإن لم يجد من يسأله أن يقرأ عنه أو يبحث في الأنترنت... ليقدره!!
حسن الخيــار:
حشر الدين في دساتيرمصر، بدءاً من دستور السادات 1971، هو الحائط الذي استند ويستند عليه كل عُنصِريّ متخلفٍ أنانيّ لا يَودُّ الخير لمصر الوطن ولا للمصريين المسلمين قبل غير المسلمين. بل حشر الدين في الدستور هو الحائط الذي يستند عليه كل من لا يَودُّ الخير للإسلام ذاته إما عمداً أو جهلا. حشر الدين في الدستور هو المِعوَل في يد الارهابيين والمتشددين والمتخلفين، ملتحفين في الدين لأغراض ونوايا خبيثة، لهدم حضارة ومسيرة مصر نحو الحرية والتعايش والانتاج والإبداع والتقدم
وما على من يعترض على كلامي إلا أن ينظر إلى الدول الإسلامية التي لبست عباءة الدين الطائفية دون إعلاء مباديء الإنسانية المطلقة وعدالة القانون، عدالة الله، لا عدالة القبيلة، وما انحدرت إليه حتى وصلت قاع مستنقع التخلف تمضغ لبانة الدين وتعشق السيف والدم بدلا من تشغيل العقل والفكر للسلام والعلم والانتاج والابداع. ولينظر إلى ما آلت إليه مصر منحدرة تدريجياً إلى ذات المستنقع، منذ 1971 حتى يومنا هذا، وبالأخص في العام الماضي حيث اشتدت قبضة الدين بعنف على عنق مصر ومواطنيها مسلمين وغير مسلمين. ولينظر أيضاً إلى الدول المسيحية في العصور الوسطى قبل أن تنهض وتحرر نفسها من قيود حكم الدين وتعلي إنسانية القانون المطلق فانطلقت ثقافة وحضارة وانسانية وأخلاقاً، تاركة كلٍّ على دينه وعلى ما شاء أن يعبد.
خلاصة القول: الدين في الدستور هو القيد في أرجل الفرس الحر حتى لا ينهض، وهو "اللجام" في فمه حتى لا يقفز للأمام. بل هو الخنجر المسموم في قلب مصر.
من أجل مصر يا مصري، المسلم قبل غير المسلم، من أجل ازدهارها وإستعادتها لكرسيها الفاخر المستحَق لها. الكرسي الذي كان محترماً من جميع دول العالم حتى من مستعمريها!! من أجل مصر يا مصري قدمت لك صورتين. قارنهما واحكم بعدل الله وقرر بحق الله، أي العصرين تراه أفضل وأشرف. أي عصر منهما تختاره لمستقبل وطنك وأبنائك وأحفادك. لا تنظر إليَّ وإلى مقالي على أني غيرمسلم، بل أنظر إلى مصر، وطنك ووطني حتى تعدل وتحسن الاختيار.ولا تقع فريسة المحتالين المغرضين المتاجرين بالأديان والأوطان. وإن أحسنت الاختيار فاصرخ للجنة الخمسين المكلفة بوضع مسودة الدستور أن تلغي بنود الدين منه، وأن تقرر العبارة البسيطة الرائعة "حرية الاعتقاد مطلقة".. فقط لا غير.