CET 08:24:54 - 21/12/2009

مقالات مختارة

بقلم: مأمون فندي

لماذا يختار العرب دائما أن يتحمسوا للمعركة الخطأ؟ سؤال أطرحه في ظل وجود معركتين ظهرتا في آن واحد، وقرر العرب طواعية أن يختاروا المعركة الخطأ كي يركزوا فيها كل جهدهم، رغم أن الاختبار كان أمامهم في ذات اللحظة. معركتان: الأولى تخص القدس الشريف، أولى القبلتين وثاني الحرمين، والثانية تخص مئذنة في سويسرا، وبحاسة شم نادرة نلتقط كل ما هو تافه، اختار العرب المعركة الأتفه من بين المعركتين: معركة المئذنة. انتفخت أوداج عرب الفضاء، وزبدت أفواههم من أجلها. وكما ذكرت في مقال سابق هناك فرق كبير بين عرب الفضائيات وعرب الواقع، بين عرب الفضاء وعرب الأرض.

المعركة الأولى، والتى لم نتحمس لها مثلما تحمسنا لمئذنة سويسرا، تمثلت في مبادرة دولة السويد، الرئيس الحالي للاتحاد الأوروبي، التي أرقت مضاجع الإسرائيليين عندما تبنت مبادرة القدس الشرقية عاصمة لفلسطين. انتفضت إسرائيل ومن معها لتوجيه سيل من الاتهامات للسويد والتي كان أولها أن السويد تقود معسكرا معاديا لإسرائيل. جن جنون الإسرائيليين من مبادرة السويد حول القدس، كانت بالنسبة لهم معركة حياة أو موت. أما نحن، فلم نتحرك لدفع هذه المبادرة المهمة إلى الأمام، لأننا كنا مشغولين بمعركة المئذنة في سويسرا، لأننا قوم مهرة في اختيار المعركة الخطأ دائما.

قبل اجتماع يوم 7 ديسمبر (كانون الأول) كان الصدام على أشده بين إسرائيل والسويد، وجن جنون الإسرائيليين، فكيف للسويد، تلك الدولة الصغيرة أن تتجرأ على إسرائيل في الوقت الذي تسكت فيه الدول الكبيرة، لذا قام رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو باتصالات مكثفة بالقيادات الأوروبية، لإثنائهم عن موقفهم، فاتصل برئيس الوزراء الإسباني خوسيه لويس ثاباتيرو، الذي ستتولى بلاده رئاسة الاتحاد الأوروبي بعد السويد، وطلب منه العمل على تغيير مشروع القرار السويدي، كما اتصل بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وبالبريطانيين، والفرنسيين، كل ذلك من أجل إجهاض المبادرة السويدية.

كذلك تحركت الجمعيات اليهودية، واللوبيات في كل مكان، مسفّهة قرار السويد، كل ذلك جرى في غياب أي دور عربي من الدول العربية أو الجمعيات الإسلامية التي تقيم الدنيا ولا تقعدها من أجل عدم دخول نصر حامد أبو زيد للكويت، أو من أجل المئذنة في سويسرا، أو من أجل الكارتون، تُرى أين تلك الجمعيات من القدس ومن نصرة المبادرة السويدية؟

النقطة التي أريد إثارتها هنا هي أننا دائما، وخصوصا رواد الفضائيات منا، نتحمس للمعارك الخطأ أو أننا بارعون في تأليف بطولات وهمية تناسبنا، أساسها تلك المعارك السهلة ضد عدو وهمي وبعيد جدا كمعركة المئذنة، أما المعارك الحقيقية التي تتطلب جهدا وعملا دبلوماسيا وسياسيا حقيقيا، فهي معارك لا تناسب ذوقنا، لذا نتجنبها.

ترى لماذا نفضل المعارك الوهمية على المعارك الحقيقية؟ ولماذا نسرج خيولنا ونتركها تصهل على كثبان الرمال ونطلق صيحات النصر من أجل غزوات كاذبة؟

إن اختبار المئذنة وتفضيلها على معركة القدس لهو عرض لمرض، أو مجرد ترميز لحالتنا التي نعيشها، لكن السؤال ليس سؤال اختيار المعارك الوهمية بقدر ما هو: لماذا، وربما دائما، يختار «رواد الفضاء» أو بالأحرى رواد الفضائيات منا تلك المعارك الكاذبة؟ لماذا نزين لأنفسنا معارك سهلة ونسوقها فيما بيننا وكأنها معارك الحياة والموت التي تحدد مصير الأمة؟ ولماذا تفرز مجتمعاتنا هذا النوع من الرجال الزائفين ممن يتسيدون المشهد، ويصورون لنا ما هو ضلال وتضليل على أنه معركتنا الفاصلة والحاسمة، ولماذا ننقاد نحن وراء هذا الزيف؟ ومن وضع هؤلاء في أماكنهم هذه؟ فرجال مثل هؤلاء لا يمكن أن يكونوا قد صنعوا أنفسهم، لأن أمثالهم لا يصنعون شيئا، فهم صنيعة، صنيعة عالم يحكمه مبدأ المكافأة لا مبدأ الكفاءة.

يخيل إليّ أن السبب الأول في اختيار المعارك الوهمية يرجع إلى ذلك الخلط ما بين المعارك التكتيكية والمعارك الاستراتيجية، وظني أن العقل العربي المعاصر، هو عقل تكتيكي بطبعه، لا يعرف الاستراتيجية، رغم حديثه غير المنقطع عنها، ورغم أن كل جماعة عندنا تقرر الاستراتيجية عنوانا لها. الاستراتيجية هي رؤية شاملة، بينما التكتيك هو رؤية جزئية، وفي خلط ما هو تكتيكي بما هو استراتيجي ضاعت أمم خلت من قبل، كان لنا في استذكار الدروس المستفادة منها عظة وعبرة، ولكن العقل التكتيكي لا يتعلم من دروس الماضي، عقل عالق بالماضي ولديه حنين إليه كما هو، لا يقرأ الماضي ولا يحلله، ولكنه فقط يستلهمه.

السبب الثاني هو أن مجتمعاتنا العربية الحديثة هي مجتمعات مبنية على تراكم الخرافات والآراء، وليست مجتمعات المعلومات والحقائق، فنحن لا نعرف لماذا قرر السويسريون مثلا أن المئذنة مخلة بالمعمار السويسري، ولا نعرف هل كان هذا القرار ضد كل البنايات العالية أم هو يستهدف المآذن فقط؟ كما أننا لا نعرف تفاصيل المبادرة السويدية تجاه القدس، فقط نسمع مواقف وآراء، ولا نسمع الحقائق، رغم أن لدينا من الصحف ما يزيد على الألف صحيفة، ولدينا من القنوات الفضائية ما يزيد على الخمسمائة. وليتنا استثمرنا في صحيفتين أو قناتين تتخصصان في الحقائق لا الآراء. أهم قنواتنا الشعبية اليوم تتخذ وببجاحة من الرأي لا من المعلومة شعارا، فهذه قناة «الجزيرة» الاخبارية الأكثر شعبية والأكثر تناغما مع عقولنا، شعارها ليس الخبر أو المعلومة، وإنما «الرأي والرأي الآخر». ظنى أن في هذا الشعار تلخيصا وإجابة كافية وشافية لحالتنا.

السبب الثالث أنه وفي مجتمعاتنا تغيب القدرة على التفكير المستقل الذي يناقش القضايا بوضوح دونما مواربة واضعا المصلحة العامة لا إرضاء الأشخاص نصب عينيه، ولكننا واحدة من المجتمعات التي تسود فيها عقلية القطيع، فإذا ما أطلق أحدنا شعارا تبعناه، وعندما أطلقت جماعة مئذنة سويسرا أن الإسلام في خطر لم نناقش ما إذا ما كانت تلك المعركة أولوية أم لا.

وهذا أمر جديد علينا، ففي الإسلام هناك تراث كامل لما يسمى بفقه الأولويات، فأين هذا التراث، ولماذا أهلنا عليه التراب وتركنا فقه التخلف يسود؟ كيف قرر بعضنا أن ينتقوا من التاريخ الإسلامي أكثر أنواع الفقه تخلفا؟ والسؤال الأخطر هو: كيف تمكن منا هذا الفقه، ومن الذي مكنه؟

إن لحظة الاختيار بين معركة وهمية، كمعركة المئذنة، ومعركة حقيقية كمعركة القدس والمسجد الأقصى، لهي لحظة كاشفة لما فينا من أمراض، وأول هذه الأمراض سيطرة التافه من الأمور على المشهد، وأن لتوافه الأمور رجالا أشداء يملأون الفضائيات زعيقا، كما أن هناك من بين أصحاب القرار عندنا ممن تعجبهم الفضائيات التافهة فيمولونها بحر مالهم. إذن، إذا كانت لدينا طبقة أصحاب رؤوس الأموال ممن يمولون التفاهة، لماذا نستعجب الأمر؟ ظني أن القدس لن تكون أولوية في هذا الجو، جو يسيطر فيه الغث على السمين، والباطل على الحق، فالحق والسمين هو أبيض وأسود، ولكن الباطل على قنواتنا الفضائية بالألوان.

إن معركة القدس ومعركة المآذن قائمة، وعلينا أن نختار معركة تهمنا، ومعركة يمكن لنا أن نكسبها، ونكسب معها تعاطف العالم، معركة القدس هي هذه المعركة، أما معركة المئذنة فهي معركة يصعب كسبها، إضافة إلى أنها توسع علينا مساحة الأعداء في أوروبا لا مساحة الأصدقاء. لكننا بلينا بعقول سادت اليوم جلها يختار وعن عمد من المعارك أتفهها. ومن هنا وجب علينا أن نفتح حوارا جادا للإجابة عن سؤال المقال الرئيسي، وهو: لماذا يختار العرب دائما القضايا الخاسرة - أو لماذا نقامر دائما على الحصان الخاسر، هل هذا نتيجة منظومة ثقافية يجب تفكيكها؟ أم لأننا وبكل أمانة لا نعرف الفرق بين المعارك التكتيكية والمعارك الاستراتيجية، أم كلتيهما معا؟

نقلا عن الشرق الأوسط

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع