بقلم: عزمي إبراهيم
التهجم الدموي من إرهابيين على أبرياء مسيحيين في ليلة احتفال بعرسهم بكنيسة العدزاء بالوراق هو مجرد عربة تم ضمَّها إلى عربات قطار الإرهاب على المواطنين المسيحيين المسالمين بمصر، وبقدر ما أتمنى أن تكون هذه العربة هي "السبنسة" للقطار الملعون، أؤكد أنها، ما دامت مصر تحت دستور محتضن لبنود ومواد دينية، لن تكون!!
إنه قطار أسود كئيب يقطر خلفه عربات وعربات تمثل أحداث وتهجمات حرق وهدم كنائس ومنازل وممتلكات وتعديات أخرى ارهابية عنيفة من بعض المتأسلمين المتطرفين ضد المسيحيين المسالمين وصلت إلى الذبح والقتل والسحل والتهجير.
عربة مذبحة كنيسة الوراق لحقت بعربات تحمل أسماء مذابح عديدة لن تمحى من ذاكرة المصريين المسيحيين والعديد من المسلمين النبلاء. عربات سوداء تحمل جثث الضحايا الأبرياء وجرحاهم وحطام أملاكهم ومقدساتهم. وعلى كل منها راية الدين ولافتة صفراء ملطخة بعار ودم عليها اسم مكان شحن العربة، مثل كنيسة القديسين وماسبيرو ودلجا والمنيا وابوقرقاص والكشح ونجع حمادي والعمرانية وديروط وملوي وقنا وفرشوط وغيرها كثير مؤرخة بتواريخ الشحن التي لم يمض عليها عامان فقط.
سائق القطار هو التطرف الذي يُميز ويُعلي طائفة عن طائفة!!!
وإدارة السكة الحديد الوقورة، أي الدولة بجلالة قدرها وأجهزة مخابراتها وأمنها وجيشها ووزاراتها وجواسيسها، لم تستدل على من قاموا بتحويل الأبرياء إلى ضحايا وشحنهم بعربات القطار. فلم يراهم أحدٌ قط. ولم يستدل عليهم أحدٌ قط. ورغم الأدلة العديدة من مستندات وصور وفيديوهات وشهود عيان، ورغم مرور سنين لم يُقبَض على أحدٍ قط، ولم يُحاكَم أحدٌ قط، ولم يُعاقَب أحدٌ قط!!!
تلك الأحداث العديدة المتتالية وكل هذا الكم من الضحايا الأبرياء، وحكام مصر والأمن والقضاء والمسئولون في الدولة تحت أي نظامٍ حَكَم مصر في الستين عام الماضية يتغاضون عن ذكاء الشعب وعن مشاعر الأقباط ومشاعر المعتدلين العاقلين من المسلمين، فيطلقون على مرتكبي تلك الجرائم الباهظة ألقاباً غريبة مثل فلول ومجهول وموتور ومعتوه وعناصر مدسوسة ودول أجنبية وطرف ثالث... إلى آخر الإبداعات كأنهم في كل حادث يتلذذون باختيار أسماً جديداً لطفلٍ وليد. وكلها أسماء على غير مُسمَّى!!! حيث أن الجناة المجرمون في كل حادث معروفون!!
كثيراً ما تأخذني الذاكرة الكريمة إلى ما قبل الستين عاماً الماضية. وُلِدت وعشت وتمتعت بالزمن الجميل حين كان الوطن بأغلبية مسلمة وحكومات مسلمة ولكن يحكمه حكم مدني بدستور ليس به ذكر لشريعة ولا ذكر لدين سوى إقرار حماية حرية العقيدة لجميع المواطنين، والجميــــع يحكمهم القانون. كانت مصر زاهرة باهرة وفي أوج عصورها ثقافة وسياسة وعلماً وفناً وتعليماً وأخلاقاً واقتصاداً وديناً!!!. في ذاك العصر الذي كاد أن يكون عصراً مثالياً لمصر وللمصريين، أقسم كان لنا أصدقاء أعزاء مقربيين ما كنا نعلم أنهم مسلمين أو مسيحيين، ولا كان يهمنا أن نعلم. كنا فقط مصريين.
كلنا نعرف أن بديع خيري مسلم وأن نجيب الريحاني مسيحي وكانوا أصدقاء جداً وشركاء في الأعمال الفنية السينمائية والمسرحية والمالية أيضاً. حدث أن صديق لأحدهما توفى فتقابلا في سرادق المعزى واكتشف نجيب الريحاني أن بديع خيري مسلم، فقال له: "ما قلتليش انك مسلم" فرد بديع قائلا "انت ماسألتنيش".
المهم... كان هذا عصر الزمن الجميل عصر سعد زغلول ومحمد عبده ومصطفى كامل ومحمد فريد ومصطفى النحاس وطلعت حرب وفكري أباظة وقاسم أمين وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وتوفيق الحكيم وطه حسين وعباس العقاد وغيرهم عمالقة مسلمين ومعهم عمالقة مسيحيين يدأ بيد وكتفاً بكتف وقدماً بقدم في كل مجال. وكان المصريون مصريين فقط، لا مسلمين ولا مسيحيين. إلى أن دَسَّ السادات الدين في دستور ١٩٧١، وتلاه دستورات أخرى على نفس النغمة وأكثر، بدأت نوازع التطرف تظهر في مصر، وزادت بطفو الاخوان على سطح الساحة المصرية، وتفاقمت بقدوم الوهابيين وتعاليم الوهابية في الشارع المصري، ثم اطلاق الارهابيين من السجون، فتسرب القاعدة وحماس من اليمن والسودان وليبيا وأفغانستان والصومال وأوربا.
كانت مصر في الزمن الجميل دولة مدنية ديموقراطية، تُحكَم بدستور مدني عادل للجميع. لم يكن للدين ذِكرٌ به إلا أنه يحمي حرية العقيدة لجميع المواطنين. وكان شعار المواطنة "الدين لله والوطن للجميع"
ومما يذكر عن زعيم الأمة سعد زغلول،خريج الأزهر الشريف، عندما كلفه الملك فؤاد بتأليف الوزارة أن قدم للملك قائمة بأسماء الوزراء للموافقة عليه. فقال الملك له هناك خطأ لأن عدد الوزراء عشرة، والتقاليد أن يكونوا تسعة: ثمانية مسلمين وقبطي واحد، وهؤلاء ثمانية مسلمون واثنان أقباط اقترحهم "سعد زغلول"، وهما "مرقص حنا" و"واصف غالي"، فكان رد سعد زغلول للملك فؤاد "هذه وزارة ثورة لا وزارة تقاليد".
ومما يجدر ذكره أنه حين أوْعَزَ بعض المغرضين للملك فاروق في عام 1937أن يحتفل بجلوسه على العرش فى القلعة، قلعة جده محمد علي باشا، ليوحى لسماسرة الدين ومدعي التدين والدروشة وبسطاء الشعب بأنه خليفة المسلمين، احتج رئيس الوزراء حينئذ مصطفى النحاس، الفلاح ابن مصر البار، بقوة، وأصر أن الدولة فى مصر دولة مدنية، ولابد أن يكون جلوس الملك أمام البرلمان الذى يمثل الشعب.. فكان ذلك!!
وهناك واقعة أخرى معروفة ومتداولة عن هذا الرجل العظيم جديرة بالذكر، وذلك حين أتى إليه أحد السياسيين الشبان يعرض عليه برنامجه السياسي قبل الانتخابات، فما أن بدأ فى قراءة البرنامج حتى طواه وأعاده لصاحبه قائلا: "لماذا تتحدث عن الله فى برنامج انتخابى؟! عندما تذكر لفظ الجلالة فى ورقة سياسية تتحول فوراً إلى دجال يتاجر بعواطف الناس ومشاعرهم الدينية." ومما يجب التنويه به هنا أن مصطفى النحاس كان مسلماً مؤمناً ورعاً تقياً يحافظ على فروض الإسلام جميعاً حتى قيل أنه لم يُقصِّر عن صلاة الفجر إلا مضطراً ونادراً، لكنه كان حضارياً مدنياً ووطنياً متنوراً وفياً لمصر يعلم خطورة استعمال ورقة الدين أو لعبة الدين في سبيل الوصول إلى السلطة والمناصب.
الفارق بين الأمس واليوم هو الفارق بين النهار والليل، بين النور والظلام. بين التقدم والتخلف. ومنبع الفارق هو دَسّ الدين في قوانين الدولة. لأن الدين، أي دين، متحيز لتابعيه. وعندما يُحكم وطن بالدين فلا عدالة للجميع. وهنا يتشجع المتطرفون الموتورين بل وتجار الدين والنفعيون وسماسرة السياسة لأنهم يختفون تحت ستار الدين ويحتمون به.
خلاصة كلامي أن حشر الدين في الحكم هو السبب الأول للفساد والفوضى والارهاب والتمييز وقتل الأبرياء وتخلف الوطن وانهيار الاقتصاد وسوء الخلق. حشر الدين في الحكم هو ثغرة، بل بوابة لفساد النظام والمواطنين معاً حيث يأخذه المتطرفون الارهابيون مركبة لجرائمهم.
نحن المصريين بالخارج، مسيحيين ومسلمين، نعيش في بلاد متحضرة،يحكمها القانون والنظام المدني، فتسود العدالة بين المواطنينن سواسية بلا تمييز على أساس دين أو عرق أو لون أو جنس أو أي خلفية. تحضرت تلك الدول على مدار سنين وعقود فأدركت ما هو الصالح والأصلح وما يدفع الوطن للأمام وما يجره للخلف. فتفرغت للعمل والتصنيع والابداع، فالازدهار والاستقرار والتقدم.
هنا يظهر ما في قلب المصري المهاجر، مسلم أو مسيحي. لماذا لا تكون بلدي مثل تلك البلاد. نحن، مسيحيين ومسلمين ويهود وهندوس ومجوس وسيخيون وبوذيون، نعمل بجهد وندفع ضرائب.. فنستمتع بحرية الفكر والعقيدة بلا تدخل من حكومة أو أية مؤسسة دينية أو غير دينية. فالدين في القلوب والمعابد فقط، لا في الدواوين.
عندما نكتب لمصر، ولأبناء مصر المقيمين يها، ولحكوماتها .. ليس لنا هدف إلا أن نرتقي بمصر لتعود سيدة العالم من جديد.. فلا حضارة في العالم أجمع ساوت حضارة مصر. لصالح مصر والمصريين، شيلوا الدين من الدستور.