بقلم : أرنست أرجانوس جبران هيوستن – تكساس
يحكى ان سمكه ساقتها الأقدار أن تباع وتشترى بواسطة إحدى المعجبات بأسماك الزينة .. فما كانت هذه السمكة ، إلا التى قامت بشرائها زوجُنا المصون والتى جهزت لها اناءاً زجاجياً جميلاً وفى أسفله وضعت فيه مجموعة من الأحجار والأصداف الصغيرة و بعضاً من " البِلّى " أو " البلالى " بألوانها المزركشة الجميلة ..
ثم قامت بملء هذا الإناء بالماء الخارج من " الفلتر " الذى نشرب منه نحن .. ووضعت سمكتها الجميلة المزركشة والتى يغلب عليها اللون الأحمر - وراحت السمكة تتعود على الاناء الجديد والبيئة الجديدة وهى تتحرك بسرعة كأنما كانت تحدد حدود إقامتها ..أم انها كانت فرحة .. وانعكس كل هذا على وجه زوجنا بتباشير السرور .. وهى تروح وتجئ ناظرة اليها .. وكم من المرات ضبطها وهى تتحدث مع سمكتها بينما كانت تضع لها وجبتها من العلبة المخصصة لهذا النوع من أسماك الزينة .. !! وهنا وجب علىّ أن أقول " الفاضى يعمل قاضى .. .." ..
وتمر الشهور والسنون .. حقيقة .. لا أدرى إن كانت شهوراً أم سنيناً .. لأن الوقت يمضى بسرعة دون أن ندرى .. وهذه السمكة المسكية رهينة إنائها الزجاجى .. تأكل نفس الأكل وتتنفس نفس الهواء المذاب فى نفس الماء .. وكما قلت مرت الأيام والشهور والسنون ، إن كانت بالفعل قد مرت لقلتها نيابة عن تلك السمكة البائسة ..
وليتنى كنت أعرف لغة الأسماك لأترجم ما قالته تلك المسكينة .. " لقد ضقتُ ذرعاً بهذا الاناء الضيق .. والطعام المتكرر .. لا أنيس ولا ونيس .." وكم من المرات .. وعند مرورى بذلك الاناء المكشوف .. أجد أن السمكة لا تتحرك .. وكأنها أصيبت بحالة إحباط شديد .. قد سئمت وجودها فى جو الروتين القاتل .. وبالفعل .. ولعلها كانت تقول .. ليتنى أجد مكاناً أرحب غير هذا السجن الضيق .. ليتنى أجد نهراً أو بحيرة أو حتى بركة صغيرة أطلق لزعانفى العنان لأسبح وأسبح دون انقطاع وأقابل أسماكاً من بنى جنسى أتآنس معهم وأستأنس بهم وأعيش بينهم ..
وفى ذات يوم من الأيام ، حضرت زوجتى لتداعب سمكتها الوحيدة المفضلة كالعادة .. فجأة ، صمتت ..سُمرتْ فى مكانها .. لم تجد سمكتها المدللة..وكم تألمتْ وهى تبحث عنها فى كل مكان وأى مكان ..!! .. وهذا الشعور جعلنى اردد تلك الكلمات التى كانت تطن فى أذنىّ تماشياً مع هذا الموقف المؤسف.. جلستْ والحزن فى عينيها .. تتأمل إناءها المنكوب .. قلتُ لها يا "ستى" سمكتك راحت تبحث عن أنيس محبوب ..
فتشتْ وبحثتْ كثيراً عن سمكة ، عيناها سبحان المعبود .. وصاحت : يا ولدى .. يا بنتى .. يا .. ، هل رأيتم سمكتى ، كانت بالأمس الموجود .. قلتُ لها .. لا ، قد كانت نائمة فى إناء مرفوض ..
سئمتْ سجنك المنكود .. فتشى عنها .. قد ماتت شهيدة و فداء لأنيس محبوب ... !!..نعم بحثتْ ..فتشتْ عنها فى كل مكان .. قلبتْ الاناء رأساً على عقب .. فلم تجدْ لها أثراً .. يا فلان .. يا علان .. أين السمكة ..!! رد فلان .. مَن يدرى قد تكون قد ذابت فى الماء .. أصبحت كالملح فى ذوبان ..ولم يكتف عِلان بما قاله فلان فرد قائلاً .. أم يكون .. قد أخذها ملك الجان !!.. ومر أسبوعاً ثم أسبوعان .. وفى ذات يوم آخر ..
إذ بها ترى نقطة حمراء ملقاة على الأرض فى ركن تحت الأريكة الجلدية .. التقطتها .. فاذ بها سمكتها المفقودة .. قلت لها على الفور .. هذه السمكة ماتت منتحرة نتيجة لحالة إكتئآب حاد ..و لهذا السبب ، قفزت خارج الماء وخارج سجنها الزجاجى قائلة:
" لابد من تغيير هذا الروتين القاتل .. فقد بلغ السيل الزبى .. موتى خير من حياتى .." قلت فى نفسى .. إن كان لها صندوق أسود .. لفتحنا ذلك الصندوق وعرفنا سبب الوفاة .. إن كان بالفعل نتيجة إكتئآب أم كان نتيجة لنقص فى الأوكسجين المذاب فى الماء ..
ومن يدرى فقد يكون سبب قفزها وخروجها من الإناء حباً فى اللعب وحباً للإستطلاع الذى أدى الى مصيرها المحتوم .. حقيقة من يدرى فقد يكون عالم و علم الغد يصبحان باستطاعتهما رصد ذبدبات خاصة توضح طريقة تفكير الحيوانات عن طريق وضع شرائح إليكترونية داخل جسم الحيوان .. تكون وظيفتها تماماً كالصندوق الأسود .. تكشف عن أسباب الوفاة .. من يدرى ..
حقيقة " العلم نور والجهل " أنور" .. وأيضاً لعلمنا سبب الانتحار الجماعى للحيتان التى وجدت ميتة على أحد السواحل النيوزيلندية فى أواخر عام 2010 .. مرة أخرى .. لعلنا نقول أن أفكارهم أم طريقة تفكيرهم هى التى جعلتهم يقومون بهذا الإنتحار الجماعى .. صحيح .. " العلم نور والجهل .." ما علينا ..
وهكذا .. فلنترك عالم الحيوان .. وننتقل الى عالم الإنسان .. فهناك من ينتحر من أجل فكر أو فكرة خاصة .. أو تعاليم خاطئة .. فلعلنا نتطرق الى أفكار التدين الخاص .. أفكار من نوع خاص .. وهذا هو موضوع المقال .. لأننا فى هذه الأيام نجد العجب العُجاب من الأفكار التى تقود أصحابها الى نتائج لا يحمد عقباها .. فذلك الشخص يؤمن بأنه إذا ما فجّر نفسه وسط مجموعة من البشر يرى أنهم كفار يستحقون الموت تحت مسمى الجهاد فى سبيل الله ، و كان له ثواب الجنة مع الحور العين والولدان المخلدين ..
وكم وكم من كنائس حرقت فى مصر وكم وكم من منازل ومحال تجارية للأقباط دمرت وسرقت .. فى الآونة الأخيرة على يد الإخوان المسلمين .. قرأنا .. وفى هذه الأيام والحرب الدائرة فى سوريا .. ونتائج فتوى " نكاح الجهاد " ..
وبعض البنات التونسيات اللواتى سافرن الى سوريا تلبية لهذه الفتوى الجهادية .. ويا أسفاه على ضحايا أمثال تلك الفتاوى والتى أعتبرها من فتاوى " الإنتحار الفكرى " التى تزهق الأرواح البريئة .. إحداهن .. بل وهى من الكثيرات كما قالت " لمياء " ذات التسعة عشرة ربيعاً .. حيث أنهن كُن يمارسن الجنس مع باكستانيين و أفغان وليبيين وتونسيين وعراقيين وسعوديين وصوماليين ..
هذه الفتاة ، والتى كانت من ضمن الفتيات العائدات من " جهاد النكاح " فى سوريا و عند عودتها كما أوضحت "الشروق" ان لمياء عادت الى تونس وبمجرد وصولها الى المعبر الحدودى بين قردان تم إيقافها وفقاً لاعلان تغيب كانت عائلتها فى تونس تقدمت به.. وباستجوابها صرحت أنها كانت فى سورية ضمن مجموعة من النساء والفتيات سافرن بغرض "جهاد النكاح " وخضعت لمياء الى التحاليل الطبية ليتبين أنها مصابة بمرض السيدا "الايدز". وأظهرت الفحوصات الطبية كذلك انها حامل فى الشهر الخامس والجنين مصاب بالمرض نفسه..
ويا لهول ما قرأت .. ويا لها من نهاية مؤلمة ..
و فى سياق نفس النوع من تلك الأفكار وكما جاء فى " بوابة الفجر الأليكترونية بتاريخ 8 أكتوبر 2013 " .. هذا الشيخ الذى قام بفتوى وهى من " داعية سلفى" يجيز جهادالنكاح لـلمتزوجة " بدون علم زوجها وذلك حتى لا تؤذي مشاعره - وقد شدتنى هذه الجملة مرة أخرى "بشرط عدم معرفة زوجها , مؤكدين أن "جهاد النكاح" صحيح مئة بالمئة ولا يجوز لأحد أن يسخر من هذه الفتوى التي يرضى عنها الله ورسوله"
الكلام كثير عن أمثال تلك الأفكار الإنتحارية .. وأخيراً وليس آخراً .. وقبل أن أنتهى من خط اللمسات الأخيرة لهذا الجزء الأول ، كان هذا الخبر الأليم وهو أحد هذه الأفكار الإنتحارية المحزنة .. فى مساء يوم الأحد الموافق 20 أكتوبر 2013 وأثناء خروج المتواجدين بكنيسة العذراء بالوراق بمصر العريقة لحضور حفل زفاف ، قام شخصان ملثمان كانا يستقلان دراجة بخارية أطلقا النار .. وكانت النتيجة قتل أربعة أشخاص بينهم طفلتان وإصابة 17 شخصاً .. وأقول والألم يعتصر الفؤاد ..
لماذا كل هذا الحقد ولماذا كل هذه الكراهية التى تستدعى أحداً بأن يقوم بمثل هذا العمل الغير إنسانى .. ومن الذى غرس مثل هذه الأفكار الإنتحارية فى إنسان أو أناس حتى يكون ديدنهم قتل الأبرياء .. أحبائى .. أصبحت هذه المشكلة ، مشكلة وطن .. مشكلة شعب .. مشكلة حكومة رائدة ورادعة .. مشكلة كل شيخ فى جامع وكل قس فى كنيسة .. مشكلة كل رب وربة اسرة .. مشكلة مناهج تعليمية ..
مشكلة معلّم و معلّمة فى مدرسة .. مشكلة تربية جيل وأجيال قادمة .. يجب القيام بالتوعية والتربية المكثفة ، حتى تجتث كل هذه الأفكار الإنتحارية .. وهكذا يجب علينا توعية هذه الأجيال .. لأننى أرثى لمثل ولأمثال هؤلاء الذين يضيعون أوقاتهم بل أعمارهم هباء .. والمشكلة أيضاً تكمن فى أنهم ينقلون عدوى تلك الأفكار المدمرة الى أطفالهم الأبرياء .. ماذا أقول ..
هل ستصبح أوطاننا مسرحاً مشجعاً لمثل هذه الأفكار الإنتحارية .. وا أسفاه .. !!
والبقية تأتى فى العدد القادم إذا شاء الرب وعشنا ..