عرض: عماد توماس
هذا الكتاب "سجون العقل العربي" لمؤلفه المفكر الكبير طارق حجي، يعتبر الكتاب الناسخ لكل كتابات حجي السابقة عن الحالة الراهنة للثقافة العربية المعاصرة، وبالتالي العقل العربي المعاصر.
أسرى لثلاثة سجون
يرى فيه حجي أن العقل العربي المعاصر هو أسير ثلاثة سجون سميكة الجدران هي سجن الفهم البدائي للدين، وسجن الموروثات والمفاهيم الثقافية، وسجن الفزع والجزع والرعب من الحداثة والمعاصرة. ويؤكد حجي على أن محنتنا المعاصرة ليست ثمرة عوامل سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية فقط، بقدر ما هى في المقام الأول ثمرة عوامل ثقافية.
محتويات الكتاب
يحتوي هذا الكتاب على ثلاثة أبواب: الأول بعنوان "سجن الكهنوت" ويتكون من ثمانية فصول، والثاني بعنوان "سجن المفاهيم الثقافية العربية السلبية الشائعة ويتكون من 18 فصل، والباب الثالث "سجن الرعب من المعاصرة والحداثة" ويتكون من سبعة فصول. صدر الكتاب عن دار "ميريت" ويقع في 464 صفحة من القطع المتوسط، ويُباع بسعر 45 جنيه.
السجن الأول: سجن الكهنوت
يقصد به سجون رجال الدين وتفسيراتهم ورؤاهم المضادة للعصر والعلم والإنسانية، ويهدف من خلال هذا الفصل دعوة المصريين جميعًا لأن يعتزوا بالنموذج الذي قدمته مصر للإسلام: نموذج السماحة والإيمان، وعدم إطلاق صفة الكفار على المسيحيين واليهود.
فخلال رحلة حجي في البحث والدراسة، يقول انه تكّون لديه نفور قوي من ما يسميهم ب"عبدة الحرف" و "أسرى النقل" كما تكّون لديه ولع شديد بأصحاب العقل وفى مقدمتهم ابن رشد الذي استفادت منه أوروبا ولم تستفد منه الشعوب العربية.
ويتساءل حجي كثيرًا: لماذا انتصر المسلمون لأبي حامد الغزالي الذي يمثل النقل وتقديس السلف ولا معنى للعمل عنده إلا العلم بالدين ويفتح المجال أمام إلغاء العقل كلية، مقابل ابن رشد؟ ما الذي سهل للغزالي هذا الانتشار، وصعب على ابن رشد انتشارا مثله؟ وبعد سنوات من البحث يصل حجي إلى نتيجة أن "الاستبداد" و"الآراء المتشددة" و"طغيان رجال الدين" هم العلامة الفارقة.
يستبعد حجي أن يحدث تطوير منشود داخل المؤسسات الدينية، معززًا قوله بأن أكبر المؤسسات الدينية الإسلامية في العالم في السعودية ومصر تطرد عناصر التجديد والتغيير البسيط، مستشهدًا بنموذج طرد إحدى الجامعات الإسلامية للدكتور أحمد صبحي منصور لمجرد رفضه لأن تكون الأحاديث النبوية مصدرًا للأحكام الفقهية.
يسرد حجي مجموعة مما أطلق عليهم لفظ "المخربين" معتبرًا حسن نصر الله "أول المخربين" الذي يصر على تدمير لبنان، يليه حركة "حماس" ثم مخربو طهران والقدس وتل أبيب.
وهم "الأحزاب الدينية"
يرفض طارق حجي وجودَ أحزابٍ سياسيةٍ على أُسسٍ دينيةٍ معتبرًا ذلك أمرٌ غير منطقي, حيث أن المبادئ التي يُقال أنها "مذهب الإسلام في شئون الحكم" لا تعكس إلا فهم بشر مثلنا قد يخطئون وقد يصيبون – والأمر كله عمل بشري.
السجن الثاني: سجن المفاهيم الثقافية العربية السلبية الشائعة
يشخص طارق حجي في هذا الفصل إشكالية الذهنية العربية، منها التبعية العمياء، والعقلية المتمترسة، وغياب السماحة، السلبية، الحناجرة أو ثقافة الكلام الكبير، ضآلة الموضوعية، الإقامة في الماضي، ثقافة مدح الذات، تمجيد الفرد، ثقافة عدم الرحيل وثقافة الموظفين...إلخ.
المغالاة في مدح الذات
يوضح حجي لأحد عيوب العقل العربي والتي شاعت في مناهجِ تفكير معظمنا، وهو (مغالاتنا في مدحِ الذاتِ) وما يتصل به من قيمٍ اجتماعيةٍ شاعت وذاعت في واقعِنا. فنظرة متأنية لما يُذاع في الناس من مواد إعلامية مكتوبة أو مقروءة تظهر بوضوحٍ أن وسائلَ إعلامِنا المختلفة (المرئية والمسموعة والمقروءة) أَصبحت لا تخلو –بصفةٍ يومية- من مدحِ الذاتِ وإطراءِ إنجازاتنا ومزايانا. وعلى المستوى الفردي، فإننا نمارس نفس الشيء بصفةٍ شبه دائمة. وإذا قارنا وسائل إعلامنا الحالية بصحفنا ومجلاتنا منذ نصفِ قرنٍ لاكتشفنا أَن هذه الصفةَ لم تكن متفشيةً في الماضي كما هي متفشية اليوم. كذلك إذا قارنا هذه الصفة الشائعة عندنا بالأوضاع المماثلة عالميًا، ولا سيما في الدولِ المتقدمة؛ وجدنا أنفسنا -أيضًا- منفردين بهذا "الكم الهائل" من مدحِ الذاتِ بصفةٍ دائمةٍ.
ويعتقد حجي أن "المغالاةَ في مدحِ الذات" ترتبطُ ارتباطًا وثيقًا بمجموعةٍ أخرى من "القيم السلبية" منها: انفصال (الأقوال) عن (الأفعال) وتحولنا (بدرجة ما) إلى "واقع خطابي" أكثر من أن نكون "واقعًا عمليًا". وارتكاز الأحكام العامة عند كثيرين على منطق (الحب) أو (الكراهية) وهو ما يقود إلى شيوع الشخصانية (Subjectivity) عوضًا عن "الموضوعية" (Objectivity) ثم يؤدى -أخيرًا- إلى انطلاق الأحكام والآراء والمعتقدات من زوايا شخصيةٍ بحتةٍ.
ثقافة الكلام الكبير
يرصد حجي عيبًا آخر للعقل العربي وهو ثقافة الكلام الكبير (الحناجرة) مستشهدًا بكلمات نزار قباني "إذا خسرنا الحربَ - لا غرابةْ...لأننا ندخلها بكلِ ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابةْ.إما بالعنتريات التي ما قتلت ذبابةْ...لأننا ندخلها بمنطق الطبلةِ والربابةْ"
ويعود بنا إلى صباح الخامس من يونيه 1967 عندما فتح المصريين والعرب عيونهم على حقيقة أن ذلك لم يكن إلا مجرد "كلام كبير".
ويدعونا لنتأمل الصفحات الأولى بصحفنا ومجلاتنا وجدنا "جيوشًا عارمة من الكلام الكبير"... فكل لقاء هو "لقاء قمة"… وكل قرار هو "قرار تاريخي"..
ويرى حجي، أن من أوجب واجبات من يهمه تصويب مسار العقل المصري أن يقوم بإيقاظ هذا العقل وينهره بشدة أمام ظاهرة اتسامه بعلة الكلام الكبير وحقيقة أنها ظاهرة وثيقة الصلة بالواقع وحقائق الأشياء. وأن يُظهر الآثار الهدّامة لهذه الظاهرة التي جعلت البعض يصنفنا (بخبث وأغراض) بأننا حضارة كلامية أو حضارة حنجرية أو (مع التطور العلمي) حضارة ميكروفونية.
تقلص السماحة في تفكيرنا المعاصر
يعترف طارق حجى، بحقيقةٍ بالغة الخطورة، وهي أَن درجة تَسامحنا قد أَخذت في التقلصِ والضمورِ خلال العقود الأخيرة بشكلٍ مُذهل. فمنُذ قرابة نصف القرن، كان المُناخ الثقافي العام لدينا مَشحونًا بعددٍ من القيمِ الإنسانية المُستقرة في وجداننا بوجه عام وفى وجدان الطبقة التي تمثل قيادة المجتمع فكريًا وثقافيًا بوجه خاص، وكان من هذه القيم أَن الاختلاف سنةٌ من سُننِ الحياة ومعلم من معالمِ التَواجد الإنساني على الأرض. وكان هذا الجو الثقافي يَجعلنا أَبعد ما نكون عن "الصيغةِ الفكريةِ" التي نمَت خلال السنوات الأخيرة والتي تُقَسم الناس إلى "نحن" و"هم" وفي نفسِ الوقتِ تجَعل "نحن" في "رصيفِ الصوابِ" أَما "هم" ففي "رصيفِ الخطأِ.
تمجيد الفرد
يعتقد حجي، أن علاقة المصريين بالشخصياتِ العامةِ تحتاج لأن تُخلى من هالاتِ التقديس التي تكتنفها أحيانًا. فحتى الحاكم فإنه ابن من أبناء هذا الوطن يتحلى بقدرات وإمكانات عقلية ودراية وخبرة وموضوعية واتزان وإخلاص تجعله قادرًا على تنفيذ ما هو منوط به من مهام. ويعني ذلك أن العلاقة يجب أن تكون مؤسسة على هذه الأرضية وأن تخلى مما يشوبها من تمجيد الفرد.
ثقافة الموظفين
ينظر حجي، نظرة سريعة لتاريخنا المصري ليؤكد على أن (العملَ للحاكمِ أو للأميرِ أو للحكومةِ) كان دائمًا شيئًا بالغَ القيمةِ والأهميةِ في ذهنِ وعقولِ وتفكيرِ المصريين، فالارتباط الوثيق بين المصري والميري، أخرج عدةُ مفاهيمٍ صارت كالمسلماتِ، مثل أن التوظفَ الحكومي أرقى وأكرم من التوظفِ للقطاعِ الخاص. وهو الضمانةُ الكبرى في مواجهةِ مخاطرِ الرزق والحياةِ. و مصدر لـ"الوجاهةٍ الاجتماعيةٍ" لكنه يعود فيؤكد ِ أن المستقبلَ لن يكون -في هذا المجالِ- صورةً مكررةً من الماضي. فمن المؤكدِ أن دورَ الدولةِ الواسع في الحياةِ الاقتصاديةِ والذي بلغ قمةَ اتساعِه في مصرَ في الستينيات سوف يكون مختلفًا تمامًا في المستقبلِ القريبِ. فالدولةُ التي كانت بمثابةِ (ربِ العملِ) للسوادِ الأعظمِ من المصريين، لن تكون كذلك في المستقبل. وسيقتصر دورُ الدولة على وضعِ السياساتِ والتشريعاتِ ومراقبةِ تطبيقها. أما الأنشطةُ الاقتصاديةُ الإنتاجيةُ والخدميةُ فسيتحول معظمُها للقطاعِ الخاصِ، وستكون فرصُ العملِ لدى الحكومةِ أو القطاعِ العام في انحسارٍ مستمرٍ. وفي المقابلِ، فإن معظمَ فرصِ العملِ الجديدةِ ستكونُ فرصًا يطرحُها القطاعُ الخاصِ. ويتوقع حجى، تعاظم قيمةِ (الكفاءةِ الشخصيةِ) محل القيم التي تأخذ طريقها للاندثارِ مثل قيم (السن) و(الأقدمية) و(مسميات الدرجات العلمية). بالإضافة إلى تعاظم أهمية قيم جديدة مثل: القدرة على الاتصالات. والقدرة على القيادة.
السجن الثالث: سجن الرعب من المعاصرة والحداثة
يحاول حجي في هذا الباب الثالث والأخير أن يطرح موضوعًا يعتقد أنه مرشح أكثر من أي موضوع آخر ليكون "محورًا" يلتقي حوله مثقفون كثيرون في مصر اليوم، وقد يختلفون في تفاصيله ولكنه يبقى مؤهلاً لكي يكون محل مساحة من الاتفاق تتجاوز مساحات الاختلاف.
وينطلق كل فكر يحتويه هذا الباب من إيمان بأن هناك ثلاثة مستويات لثلاثة كيانات: "الإنسانية" و"الحضارات" و"الثقافات" ويقوم هذا الفكر على أن "الحضارات" أفق أعلى من أفق "الثقافات" وأن "الإنسانية" أفق أعلى من أفق "الحضارات" وأن "قيم التقدم" هي من مكونات الأفق الأعلى أي أفق "الإنسانية" وهو ما يجعلها فوق خلافات "الحضارات" وخلافات "الثقافات".
ورغم أن كل أفكار هذا الباب تتعلق بأفق الإنسانية، إلا أنها قد تصلح -في نفس الوقت- لتوجيه العلاقة بين "الحضارات" لدرب "الحوار" عوضًا عن تركها تسقط الآن بقوة الفوضى الناجمة عن غياب التحاور "الديالوج" لتصبح "مُسيرة" على "درب الصراع" أو "درب الصدام" والمستقبل، وبالتالي فإن السؤال حول طبيعة العلاقة المستقبلية بين الحضارات وهل تكون "حوارًا" أم "صدامًا" هو سؤال توجد إجابتان محتملتان عنه في رأي طارق حجي: فمستقبل العلاقة بين الحضارات يمكن أن يكون في صيغة الحوار كلية إذا كانت جهود الفكر اليوم تهدف لذلك، كما أن مستقبل العلاقة بين الحضارات يمكن أن يصبح في إطار الصدام إذا كانت جهود الفكر اليوم ستترك "العربة" تسير بقوة الدفع الذاتي لجريمة عدم تأصيل الحوار.
ويعرض المفكر المصري لأهم قيم التقدم مثل: الوقت، "ثقافة النظم"… لا "ثقافة الأشخاص" ، الإتقان، غرس قيمة التعددية، نقد الذات والتجويد المستمر، الإيمان بعالمية المعرفة، قيم العمل الحديث (أو قيم التقدم الإداري).
المنبع والهوية
يؤكد حجي، على أن قيم التقدم كفيلةٌ بأن توضح أنه وإن اختلفت ملامح الحضارات الإنسانية (القديمة منها والحديثة) فإن القيم التي أشار إليها تنتمي للإنسانية أو لمسيرةِ تمدنِ الإنسان على الأرض أكثر من انتمائها لأية حضارةٍ معينةٍ. فالإنسانُ بجانبِ مسيرات الحضارات له مسيرة تقدم أعلى من تفاصيل الحضارات وهذه المسيرة هي التي شكّلت قيم التقدم وجعلتها أكبر من أن تكون "وليدة حضارة معينة". وبدون الإيمان بأن (الإنسانية) أعلى وأسمى من (أية حضارة) فإننا نكون من جهة مخطئين ومن جهة سائرين على دربِ التعصبِ والعرقيةِ.
قيم التقدم وبناء مجتمع قوي
يضع حجي، الأولوية العليا عنده هي "بناء داخلٍ مصريٍّ قويٍّ" بمعنى بناء مجتمعٍ صحي توجد فيه طبقةٌ وسطى واسعة وذات استقرار اقتصادي وتعليم عصري ومناخ ثقافي عام يواكب الزمن الآني مع معرفةٍ واعتزاز بتاريخنا دون أن يتحول ذلك إلى حالةٍ مرضيةٍ من عشقِ الماضي . وحتى الذين تأتي أولوياتٌ أخرى غير ذلك على قائمة أولوياتهم سواءً كانت هذه الأولويات العليا قومية أو غير ذلك، يقول لهم حجى: أنه لا فرصة لأيٍّ منهم لتحقيق وإنجاح أولوياته العليا إلاِّ عن طريق "داخلٍ مصريٍّ قويٍّ مستقرٍ ومزدهرٍ". فالذين يحلمون بمشروعٍ قوميٍّ عربيٍّ ناجح عليهم أيضًا أن يؤمنوا أن ذلك لا يتحقق إلاِّ بداخلٍ مصري قوي، وأصحاب الحلم بأن تلعب مصرُ دورًا إقليميًا أو عالميًا بارزًا عليهم أيضًا أن يعلموا أن ذلك مستحيلٌ بدون داخلٍ مصري قوي مستقر ومزدهر. إن كل الطموحاتِ المصريةِ بشتى أشكالِها وألوانِها وأيًا كانت درجة الموافقة عليها أو المخالفة لها لا يمكن إلاِّ أن تمر ببوابةٍ حتميةٍ هي بناء داخل مصري قوي.
التعليم.. وصناعة المستقبل
يختم مفكرنا الكبير هذا الكتاب الضخم، بالتنبير على أهمية التعليم لمستقبل مصر، فيعتقد أن صنع مستقبلٍ أفضلٍ لوطننا يعتمدُ على ثلاثة محاورٍ رئيسيةٍ: محور اقتصادي ومحور سياسي ومحور فكري (تعليمي وثقافي).
ويرى حجي، أن أية عمليه تقييم لمؤسستنا التعليمية لا يمكن أن تكون علمية وموضوعية إلاِّ إذا سبقتها إجابات عن الأسئلة التالية:-
- ما هي الأهداف أو الوظائف الإستراتيجية للعملية التعليمية؟
- ما هو وضع المؤسسة التعليمية المصرية الراهن من وجهة نظر الأهداف الإستراتيجية للعملية التعليمية؟
- إذا كانت المؤسسة التعليمية المصرية بوضعها الراهن لا تحقق الأهداف الإستراتيجية لعملية التعليم – فما هي آلية حل هذه المعضلة الكبيرة؟
أما الأهداف الإستراتيجية للعملية التعليمية، فيرى أن تجربة الدول العريقة في التعليم استقرت على أن لأية مؤسسة تعليمية في أية دولة عصرية هدفان أو وظيفتان إستراتيجيتان، أولهما: (وظيفة تعليمية بحت) وثانيهما: (وظيفة تربوية). أما الوظيفة التعليمية البحت فتعني باختصار تقديم مفاتيح و أسس العلوم التطبيقية والاجتماعية والإنسانية المعاصرة بشكل يسمح بالبناء القوي على تلك الأسس في المراحل العليا للعملية التعليمية. وأما الوظيفة التربوية فتعني غرس وتأصيل وتنمية وتثبيت مجموعة من القيم يمكن القول بأنها تنقسم بدورها إلي مجموعتين أولهما مجموعة القيم العامة أو الحياتية والتي تستهدف تكوين مواطن صالح. |